حتى لا نضيع في لجة التفاصيل الكثيرة التي تحملها لنا الأخبار المتواترة حول الأزمة السياسية المستمرة، فإنه من المهم أن نتبين طبيعة الصراع السياسي الدائر الآن في مجتمعنا لمعرفة أسباب الأزمة رغم ضبابية المشهد السياسي العام وتداخل العديد من العوامل الثانوية المؤثرة في هذا الصراع السياسي.

Ad

لقد بدأ منذ بداية العهد الدستوري صراع سياسي محتدم بين مَن يريدون استكمال بناء الدولة الدستورية العصرية من ناحية ومَن يعتبرون الدستور خطأً تاريخياً يريدون التخلص منه من الناحية الأخرى. وقد عمل الفريق الثاني أي أعداء الحكم الدستوري منذ ذلك الوقت على إجهاض بناء الدولة الدستورية المعاصرة التي يتساوى فيها المواطنون جميعا أمام القانون وتسود فيها العدالة الاجتماعية. هذا هو، كما نرى، السبب الرئيسي في أزمتنا السياسية المستمرة التي تخفُت حينا وتبرز بقوة أحيانا كثيرة. والمطلع بموضوعية وإنصاف على التاريخ الحديث للكويت لا يمكنه تجاهل هذه الحقيقة التي تدل عليها الشواهد الكثيرة التي من أبرزها على الأقل خلال العقود الثلاثة الماضية ما يلي:

1- الانقلاب الأول على نظام الحكم الدستوري في عام 1976 وما رافقه من قوانين تقيد الحريات العامة كحرية عقد الاجتماعات العامة وحرية التعبير وما ترتب عليه من تحالفات سياسية جديدة مع أطراف معادية فكرياً لنظام الحكم الديمقراطي.

2- تشكيل لجنة النظر في تنقيح الدستور أثناء فترة الانقلاب الأول حيث جوبهت برفض شعبي عارم كانت نتيجته رفض هذه اللجنة لطلب الحكومة بتنقيح الدستور.

3- انفراد الحكومة بتعديل الدوائر الانتخابية في عام 1980 على أمل وصول مجلس أمة «يبصم» على ما تريد الحكومة إدخاله من تعديلات تؤدي إلى تفريغ الدستور من محتواه.

4- الانقلاب الثاني على نظام الحكم الدستوري في عام 1986 وما رافقه من تقييد للحريات العامة أيضا وفرض رقابة مسبقة ومباشرة على الحرية الصحافية.

5- إنشاء المجلس الوطني غير الدستوري في عام 1990 على أمل أن يكون بديلاً عن مجلس الأمة رغم المطالبات الشعبية الواسعة بعودة العمل بالدستور التي عبرت عنها «ديوانيات الاثنين» ورغم المقاطعة الشعبية لانتخابات المجلس الوطني.

6- إعادة العمل بالمجلس الوطني غير الدستوري بُعيد التحرير مباشرة رغم الوعود والتعهدات التي تمت في مؤتمر جدة عام 1990.

7- التهديد الدائم بالانقلاب على نظام الحكم الدستوري أو ما يسمى «الحل غير الدستوري» كلما لاحت فى الأفق أزمة سياسية بين السلطتين مصدرها في الغالب ممارسة أعضاء المجلس لصلاحياتهم الدستورية التي كفلها الدستور مثل تقديم الاستجوابات، حتى لو اختلفنا مع مضامين بعضها أوتوقيت تقديمها، وخير دليل على ذلك هو ما تناقلته أكثر من وسيلة إعلامية وتطرق له أيضا بعض أعضاء مجلس الأمة ولم يتم نفيه، من معلومات تسربت عن الاجتماعات الأخيرة للأسرة الحاكمة الكريمة متضمنة دعوة بعض رموزها من أعضاء الحكومة للانقلاب على الدستور إثر الاستجوابات المقدمة لرئيس مجلس الوزراء.

8- ما تناقلته وسائل الإعلام أخيرا من معلومات، لم يتم نفيها أيضاً، عن نية الحكومة تجاوز الرخصة التي أعطاها إياها الدستور وذلك بقيامها بتعديل الدوائر الانتخابية بشكل منفرد مرة أخرى وتقييد الحريات العامة وحرية الصحافة في حالة حل مجلس الأمة حلاً دستورياً، على أمل أن يؤدي تعديل الدوائر الانتخابية إلى تغيير تركيبة مجلس الأمة القادم بما يخدم التوجه الحكومي الذي يهدف إلى «خلع أسنان» المجلس.

9- عدم تطبيق الدستور تطبيقا كاملا رغم مضي أكثر من ستة وأربعين عاما على بداية العهد الدستوري.

إذن السبب الرئيسي للأزمة السياسة هو عدم إيمان بعض الأطراف السياسية النافذة بنظام الحكم الدستوري ومحاولاتهم المستمرة، التي نجحت للأسف في بعض الأحيان، في تجاوز الدستور ووأده. لهذا فإنه لا سبيل أمامنا للخروج من هذه الأزمة، التي يدفع المجتمع والدولة ثمنها الباهظ، إلا بالالتزام التام والحقيقي بالدستور وتسخير كل طاقات المجتمع نحو استكمال مشروع بناء الدولة الدستورية العصرية مع ما يتطلبه ذلك من إصلاحات سياسية مستحقة. غير ذلك تبقى تفاصيل كثيرة ومملة لا قيمة لها ومضيعة للجهد والوقت الثمينين لأنها تدور كلها حول مظاهر الأزمة السياسية ولا تتطرق البتة إلى سببها الرئيسي.