الحراك الديمقراطي ظاهرة صحية
ما يثير الاستغراب حقا هو المبالغة الكبيرة في تصوير الاستجوابات المقدمة حاليا لرئيس مجلس الوزراء على أنها كارثة سياسية لا بد من تجنبها، وإلا فإن حل المجلس قادم لا محالة! لأن معني ذلك هو إلغاء الصلاحيات الدستورية لأعضاء مجلس الأمة، ورفض الممارسات الديمقراطية التي كفلها الدستور.وحدها المجتمعات الدكتاتورية هي التي تتسم بالركود والجمود والموت الإكلينيكي، أما المجتمعات الديمقراطية فإنها دائما ما تتميز بالتنوع والحركة والنشاط والحيوية التي نراها في المحاورات والنقاشات العامة التي تدور في المنتديات العامة، وتبثها وسائل الإعلام المختلفة من صحافة وتلفزيون وإذاعة وإنترنت ووسائل إلكترونية أخرى حديثة.
والزائر للدول الأوروبية أو للولايات المتحدة الأميركية سرعان ما يلفت انتباهه حدة وحيوية النقاشات والمناظرات والمحاورات التي يشاهدها في قنواتهم التلفزيونية، ويقرؤها في صحفهم المحلية التي تبين تنوع واختلاف وجهات النظر حيال القضية أو المشكلة الواحدة. ومن المعروف أن لدى هذه الدول الديمقراطية أحزاب معارضة قوية تبحث باستمرار عما يمكن أن يصدر من أخطاء عن الحزب الحاكم لتوجه انتقاداتها اللاذعة والقاسية أحيانا للسياسات التي تتبناها الحكومة. ففي بريطانيا، على سبيل المثال، يوجد ما يسمى «حكومة الظل»، حيث إن كل وزير حكومي يقابله «وزير» آخر غير رسمي معارض، ولنا أن نتصور ما سيوجهه «الوزير» المعارض من انتقادات حادة لسياسات وتصرفات نظيره وزير الحكومة، أو حتى تقديم استجواب بحقه لو تطلب الأمر ذلك.ومن المعروف أن أهداف الاستجوابات كافة هي أهداف سياسية بالدرجة الأولى سواء قدمت لرئيس مجلس الوزراء أو للوزراء منفردين، يقصد من ورائها تبيان أخطاء السياسات الحكومية التي ربما يفضي انتقادها إلى استفزاز الحكومة أو إحراجها لدفعها على الاستقالة. كما أن الحكومة أو أحزاباً أخرى معارضة قد تصف من طرفها بعض الاستجوابات بالعبثية أو عدم المواءمة السياسية، أو أنها قد تحقق مصالح أطراف أخرى غير ظاهرة مباشرة على الخريطة السياسية، لكن رغم كل ذلك فإن أنظمتهم الديمقراطية راسخة وتتطور باستمرار، فلم نسمع قط أن هناك تهديداً بحل مجلس العموم البريطاني أو تلميحاً بحل الكونغرس الأميركي بمجرد ممارسة الأعضاء صلاحياتهم الدستورية. هذه هي طبيعة النظام الديمقراطي الذي تتصارع ضمن أطره القوى السياسية التي تمثل مصالح طبقات وفئات اجتماعية مختلفة، ومن الطبيعي جداً ألا تتوافق هذه القوى دائما على سياسة معينة، لأن الصراع الديمقراطي والاختلاف في المنطلقات والرؤى بين القوى السياسية والاجتماعية هو وحده الكفيل بتطوير العملية الديمقراطية التي من طبيعتها التجدد باستمرار.لهذا فإن ما يثير الاستغراب حقا هو المبالغة الكبيرة في تصوير الاستجوابات المقدمة حاليا لرئيس مجلس الوزراء على أنها كارثة سياسية لا بد من تجنبها، وإلا فإن حل المجلس قادم لا محالة! لأن معني ذلك هو إلغاء الصلاحيات الدستورية لأعضاء مجلس الأمة، ورفض الممارسات الديمقراطية التي كفلها الدستور والتي من دونها سيفقد مجلس الأمة دوره الرقابي.إن المفروض هو ألا يُعطى الاستجواب أكثر من حجمه الدستوري الطبيعي، وأن يتم التعامل معه ضمن أطره الدستورية، فالاستجواب مهما اختلفنا مع هدفه المعلن أو محتواه أو حتى توقيته فإنه يظل أداة من أدوات الرقابة الشعبية وجزءاً لا يتجزأ من الممارسة الديمقراطية الدستورية السليمة.وغنيّ عن البيان أن الممارسة الديمقراطية السليمة كفيلة بجعل الناس تعتاد على أن الاستجواب ما هو إلا سؤال مغلظ يستطيع المستجوَب (بفتح الواو) إن كان يملك الحجج السليمة، أن يرد عليه بكل سهولة ويسر. لهذا فإن الاستجوابات المقدمة حاليا لرئيس مجلس الوزراء هي فرصة تاريخية لرئيس الحكومة يستطيع من خلالها أن يوضح ويشرح سياسة حكومته، ويدافع عنها أمام الشعب من أجل كسب ثقته بالسياسات الحكومية.كما أن وقوف رئيس الحكومة على المنصة ومواجهة الاستجوابات المقدمة إليه وتفنيدها، علاوة على كونه التزاما بالدستور، فإنه سيبين للعالم متانة نظامنا الديمقراطي ودرجة الشفافية العالية التي يتميز بها، وسيثبت للعالم أيضا أن مجتمعنا مجتمع حي، فيه درجة عالية من الحراك السياسي الديمقراطي الصحي.