شكّلت زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس، في التاسع عشر من تشرين ثاني (نوفمبر) سنة 1977، منعطفاً تاريخياً فاصلاً، كانت له انعكاسات مباشرة وخطيرة على لبنان، فحدث فيه ما يشبه انقلاب الصورة، إذ اهتز حبل الأمن ووقعت الاشتباكات، وتبدلت التحالفات، وصار الممنوع مطلباً، والمحظور حاجة. استحال خلال عام 1978 تحالف سورية و«الجبهة اللبنانية» عداء دموياً، وعداء سورية والحركة الوطنية والمنظمات الفلسطينية انقلب حلفاً راسخاً وإن كان حذراً، استمر حتى رحيل المقاتلين الفلسطينيين من بيروت عام 1982.

Ad

أحدثت زيارة السادات زلزالاً في المعادلة اللبنانية. فسورية وجماعة الحركة الوطنية والتنظيمات الفلسطينية اعتبرتها خيانة عظمى وتنازلاً عن القضية الفلسطينية والحقوق العربية، وإضعافاً للجبهة مع إسرائيل. في المقابل، رأت «الجبهة اللبنانية» في الزيارة فرصة ثمينة لإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي الذي طال أمده وانعكست تداعياته بشكل سلبي على لبنان. وفي الواقع، لقد أعادت الأمور إلى نصابها الطبيعي لأن ما لم يكن طبيعياً هو حلف سورية التي تفخر بكونها «قلب العروبة النابض» مع «الجبهة اللبنانية» أكثر نماذج اللبنانية شوفينية.

أما نحن جماعة الحكم المتمسكين بأهداب الشرعية ودولة القانون والمؤسسات فكنا في كلا الحالين نعاني تحالفات فئات لبنانية مع سورية غالباً ما كانت تأتي على حساب السيادة والانتماء الوطنيين. وكنت أقول للسوريين لا يجوز أن تتجاوبوا مع مطالب «الجبهة اللبنانية» أكثر مما تتعاونون مع السلطة الشرعية. بعد زيارة السادات إلى إسرائيل، تدهورت العلاقة بين دمشق وجماعة «الجبهة اللبنانية»، ووقعت اشتباكات بين الطرفين، وصرت أجادل السوريين كيلا يستبعدوا حزب الكتائب و«الجبهة اللبنانية»، فانتقلت بذلك في غضون سنة من النقيض إلى النقيض.

مجزرة وليست اشتباكا

صباح السابع من شباط (فبراير) 1978، دخلت والرئيس سركيس إلى مكتبه بعد انتهاء مراسم تسلم أوراق اعتماد سفير فنزويلا، وما هي إلا لحظات حتى دخل أحد مساعدي الرئيس وأبلغنا خبر وقوع حادث إطلاق نار بين قوات الردع العربية وعناصر ثكنة الفياضية في الجيش اللبناني. اتصلت على الفور برئيس الأركان وأمرت بوقف فوري وصارم لإطلاق النار، وعندما بلغتني حصيلة الاشتباكات وجدتها ثقيلة ومثيرة للقلق: أربعة عشر قتيلاً وثمانية وعشرين جريحاً سوريا، وجريح لبناني واحد. اهتممت بوضع الجرحى السوريين بإرسال عشرة منهم إلى المستشفى العسكري اللبناني. وأمضيت الليل إلى جانب الرئيس سركيس ومستشاريه نبحث في سبل تهدئة الأوضاع وتجنب التصعيد، فاتصلت مساء بنظيري السوري مصطفى طلاس، في ما اتصل رئيس الجمهورية بنظيره حافظ الأسد، وكان جواب الأخير هادئاً لا بل مطمئناً: «لا تقلق، هذه حادثة يمكن أن تقع بين جيشين، وعلى كل حال فالجنود السوريون هم أبناؤك كالجنود اللبنانيين، اعمل ما يطيب لك». وبدا لنا أنه كان لايزال يجهل فداحة الخسائر في صفوف جيشه.

عند الساعة العاشرة من الثامن من شباط (فبراير)، وكنت لاأزال في مكتبي في وزارة الخارجية، سمعت دوي القذائف المتساقطة على ثكنة الفياضية ومحيطها، اتصلت برئيس الجمهورية فأخبرني أن القوات السورية تقصف مراكز الجيش، وأن الوضع خطير للغاية، وأنه اتصل بالرئيس الأسد الذي كان جوابه: «الحادث بمنتهى الخطورة، وهو ليس اشتباكاً بل مجزرة، إنه فخ مقصود نصب للجيش السوري لا حادثة عرضية، وقضية كهذه تثير نقاط استفهام عديدة، ولن أتساهل فيها(...) لا أستطيع الصفح عن الذين يطلقون النار على جنودي، إن هيبة الجيش السوري كلها في الميزان». وعندما اقترح الرئيس سركيس تشكيل اللجنة العسكرية المشتركة للتحقيق، رد الرئيس السوري: «قائد الجيش اللبناني يعرف المسؤولين لكنه يحاول التملص، فيخترع المخارج والمبررات، وتأليف لجنة تحقيق هو أحد هذه الاختراعات، قائد الجيش يريد حلاً على الطريقة اللبنانية يبرئ فيه المذنبين، هذا مرفوض من جانبنا، عليه أن يكون مستعداً لتسليمنا الضباط اللبنانيين المذنبين، ولإعدام بعضهم بالرصاص».

لم أكن بحاجة إلى هذه التفاصيل لكي أعرف أن الوضع أخطر مما توقعت في اليوم السابق، فصوت رئيس الجمهورية المرتبك خير دليل على أننا أمام مأزق حرج. وفي غضون ساعة، بدأت دائرة القصف السوري تتسع لتشمل وزارة الدفاع وطريق القصر الجمهوري.

جرأة فرنجية

عند الثانية عشرة، انتقلت إلى منزلي، القريب من الخارجية، نظراً الى التسهيلات المتوافرة لدي لإجراء الاتصالات الهاتفية، وتابعت منه التطورات الميدانية: الاشتباكات اندلعت في كل مكان، في سن الفيل، وعين الرمانة، والشياح، وغيرها. ولم أستطع الوصول إلى القصر الجمهوري قبل الخامسة من بعد الظهر، وقد توجهت إليه برفقة المحامي كريم بقرادوني في سيارة صغيرة من دون مواكبة، وبدّلنا طريقنا أربع مرات بسبب القصف والاشتباكات، وتعرضنا لأكثر من رشق ناري. انعقد مجلس الوزراء في السادسة، وطرحت أفكارا عدة منها إيفاد شخص من قبل الرئيس سركيس إلى سورية لكي يبحث مع الرئيس السوري في السبيل المؤدي إلى إيقاف التردي الأمني، وجرى التداول باسم كريم بقرادوني للقيام بالمهمة. قضيت الأمسية في القصر الجمهوري حتى العاشرة ليلاً، مجرياً سلسة اتصالات بالمسؤولين السوريين ناجي جميل وحكمت الشهابي لأن الوزير عبدالحليم خدام كان لايزال في الخليج.

صباح التاسع من شباط (فبراير)، اتصل بي رئيس الجمهورية وأعلمني أن السوريين اتصلوا به وأخبروه أنهم عدلوا عن المجيء إلى لبنان، وأنهم ينتظروننا في دمشق. وبعد تشاور حول صعوبة الوضع والتصلب السوري، اقترح الرئيس سركيس أن نستعين بالرئيس سليمان فرنجية المقرب من الرئيس السوري، ونطلب منه الذهاب إلى سورية علّه ينجح في تهدئة الوضع. وافق الرئيس السابق للجمهورية دون تردد على الاقتراح وسرعان ما حضر إلى قصر بعبدا، ومنه انطلقنا، الرئيس فرنجية وأنا، برفقة قائد قوات الردع العربية سامي الخطيب، في الساعة الحادية عشرة والدقيقة الأربعين، بعدما أجرينا سلسلة اتصالات للتحقق من سلامة الطريق. وفور وصولنا إلى دمشق اجتمعنا بعبدالحليم خدّام وناجي جميل، وحكمت الشهابي، وبعدما تناولنا طعام الغداء معهم، انتقلنا، من دون الشهابي، للاجتماع مع الرئيس السوري.

ساد المحادثات مع الأسد جو من التصلب والحزم ولكن بكياسة واضحة. استغربت في الواقع جرأة الرئيس فرنجية الذي لم أكن أتوقع منه مواقف حادة كتلك التي أخذها، وفي المقابل، لم أنتظر أن يكون الرئيس الأسد بالتشدد الذي بدا فيه مع الرئيس فرنجية.

صاعقة تصريحات «رويترز»

تم الاتفاق مع السوريين على تشكيل محكمة أمنية خاصة (...)، وباشرت هيئة التحقيق مهمتها رسمياً ابتداء من صباح السابع عشر من شباط (فبراير)، مع أن الضابطين السوريين فيها، أجريا بعض التحقيقات في القصر الجمهوري ابتداء من حصول اتفاق بين المسؤولين اللبنانيين والسوريين وأركان «الجبهة اللبنانية» على إجراء تحقيق مشترك لمعرفة ملابسات أحداث الفياضية. وقد جرت الأمور في البداية كما أردتها: برهنا عن جدية في التعاطي مع الأحداث من غير أن نمس هيبة الجيش اللبناني ومعنوياته، ومن غير توقيفات عشوائية، وقد تقبّل الجيش فكرة المحكمة المختلطة لكن بدا لي ألا تنسيق ولا وضوح رؤية عند أي من الأطراف فلا أحد يعرف ماذا عليه أن يعمل ومن عليه أن يأمر بتوقيفه وكيف. وانهالت علي الاتصالات والأسئلة: من الجيش، والقضاة، وقوات الردع العربية. حاولت أن أتجنب الدخول في التفاصيل، لكنني سرعان ما تيقنت أنه ليس بإمكاني أن أنأى بنفسي عن العملية لأن الوضع دقيق وبإمكان كل تفصيل أن يولد أزمة، وفي حال وقوع أزمة فستقع عليّ مسؤولية البحث عن حل لها.

في الواقع، لم تكن تنقص لبنان عوامل التفجير، ففي الوقت الذي كنا نتفاوض فيه بين السادس عشر والسابع عشر من شباط (فبراير) مع حزب الوطنيين الأحرار لتسليم مطلقي النار على الجيش السوري في فرن الشباك، ولتسهيل مهمة هيئة التحقيق المشترك، نقلت وكالتا الصحافة الفرنسية ورويترز، بعد ظهر السادس عشر من شباط (فبراير) عن الرئيس كميل شمعون قوله إن المسيحيين يتعرضون لحرب إبادة من السوريين. وقع هذا التصريح مثل الصاعقة عليّ وعلى سائر العاملين على تهدئة الأوضاع الأمنية والسياسية، وساد البلاد جو من القلق الشديد، فقمت مع آخرين بحملة اتصالات واسعة لتهدئة الأجواء، إلى أن جرى تعميم بيان توضيحي أصدره الرئيس شمعون في صباح السابع عشر من شباط (فبراير)، ونفى فيه عملياً أن يكون اتهم النظام السوري بمحاولة إبادة المسيحيين.

عندما هدأت الأجواء قليلاً، توجهت إلى منزلي لتناول طعام الغداء وأخذ قسط من الراحة، بعدما نال مني التعب والإرهاق. ولم أكد أستلقي حتى جاءني السكرتير في الخارجية سمير مبارك لأمور إدارية ملحة، وسألني بعدها عما استجد في الأوضاع فقلت له: «لست أفهم ماذا تريد «الجبهة اللبنانية»، يصوتون في مجلس النواب على قانون إنشاء محكمة مختلطة ثم يطلقون التصاريح النارية والمزايدات التي تخربط كل شيء. أسألهم هل أصبحتم ضد بقاء السوريين في لبنان؟ فيجيبونني: كلا، نريدهم أن يبقوا الآن، ثم أرى جماعة منهم يقومون بكل ما يؤدي الى الاصطدام بالسوريين، أطلب إليهم تسليم شخصين أو ثلاثة من مفتعلي الأحداث، فيرفضون، يريدون الشيء ونقيضه في آن واحد. كيف يمكنني إذّاك أن أتفاوض مع السوريين وأهدّئ روعهم وأمتص غضبهم وقد سقط لهم الكثير من القتلى؟ أرى أن على الحكومة الحالية الاستقالة لتأتي مكانها حكومة سياسية، ليأخذوا هم المسؤولية، ولنر ماذا سيفعلون».

قيادة شكلية

وبينما التحقيقات مستمرة، اتصل بي قائد قوات الردع العربية سامي الخطيب، في الثالث والعشرين من شباط (فبراير) وطلب مقابلتي، فاستقبلته في قصر بعبدا، بحضور قائد الجيش فيكتور خوري. وقدّم لي الخطيب لائحة مؤلفة من أسماء اثني عشر ضابطاً وخمسة رتباء قال إن المطلوب بإلحاح وبأسرع وقت توقيفهم. أجبت قائد قوات الردع فوراً بأن هذا الطلب مستحيل حتى لو كانوا جميعهم مذنبين. وبعد نقاش حاد، اكتفى الخطيب بالمطالبة بتوقيف ضابطين، وكنت أشعر في تلك الفترة بأن الخطيب قد جرى استبعاده عملياً عن قيادة قوات الردع العربية، وأصبح قائداً شكلياً لها. وكان صباح ذلك اليوم شهد جلسة صاخبة ضمت لجان الخارجية والدفاع، والإدارة والعدل برئاسة رئيس مجلس النواب كامل الأسعد، بينما توليت تمثيل الحكومة التي حضر منها وزير الداخلية صلاح سلمان جزءاً من الاجتماع. تعرضنا في تلك الجلسة إلى أقسى الانتقادات على طريقتنا في التعامل مع أحداث الفياضية، وعلى التأخر في إنجاز قانون الدفاع.

بين العشرين والرابع والعشرين من شباط (فبراير)، جرى توقيف الضابطين، الملازم أول فارس زيادة والملازم أنطوان حدّاد إضافة إلى النقيب سمير الأشقر وجنديين، وسط استمرار التقلبات في الموقف السوري بين مهدد وراض عن سير عملية التحقيق. التقيت في هذه الأثناء العقيد زين مكي الذي بدا قلقاً مما قاله له سامي الخطيب من أن الهيئة القضائية المختلطة هي المسؤولة في حال تدهورت الأوضاع من جديد. وتكوّن لدي انطباع، في ذلك الحين، أن السوريين يريدون حشرنا بغية الحصول على قرارات بالإعدام بحق ضباطنا المشاركين في أحداث الفياضية أو الحصول على ثمن سياسي ما. وكنت أميل في تحليلاتي إلى ترجيح الاحتمال الثاني.

يوم الجمعة في الرابع والعشرين من شباط (فبراير)، وهو اليوم الذي فك فيه الجنود السوريون حصارهم عن ثكنة الفياضية والمواقع العسكرية اللبنانية المحيطة بها، تناولت طعام الغداء إلى مائدة الرئيس شمعون، وكنا وحدنا، فأسر إليّ بغضبه من تصرفات الكتائبيين. وقال إنه لا يحبذ فكرة تشكيل حكومة جديدة لأنها ستضم أشخاصاً مثل عاصم قانصوه وأمين الجميل، مقترحاً توسيع الحكومة الحالية ومبدياً استعداده لقبول مقعد وزاري فيها، وعاد إلى معزوفة الطلب إلى الأميركيين بالتدخل عسكرياً في لبنان. فرفضت هذا الطلب، مدلياً بما كان عندي من معطيات تؤكد أنه لا يجوز للبنان أن يتقدم بمثل هذا الطلب البتة لأن لا فائدة من ذلك بل على العكس ثمة تداعيات سلبية يمكن أن تنتج عن مثل هذا الطلب، ناهيك عن أن واشنطن ليست في وارد مجرد البحث في هذا الموضوع. واتصلت على الفور بالسفير الأميركي ريتشارد باركر، وطلبت منه أن نلتقي عند الساعة الثالثة مع الرئيس شمعون لكي يزيل من رأسه نهائياً فكرة تدخل الأميركيين مباشرة في لبنان.

تمهيد نيراني من خدام

في اليوم التالي، استقبلت المدعين العامين في المحكمة الأمنية الخاصة، وتداولنا في مجريات التحقيق، واطلعت منهم على تفاصيل الاجتماع الطويل الذي عقدوه مع أعضاء لجنة التحقيق. وقالوا إن المحققين السوريين تلقوا أوامر واضحة ومباشرة بوجوب التوصل إلى عقوبات بالإعدام وتنفيذها، وإن هؤلاء لا يبدو أنهم يقيمون وزناً للاعتبارات القانونية. ومساءً، عقدت اجتماعاً طويلاً مع رئيس الجمهورية لتقويم الأوضاع والإعداد لزيارتي إلى دمشق المقررة الثلاثاء في الثامن والعشرين من شباط (فبراير) 1978.

في اليوم التالي، استقبلت المدعين العامين في المحكمة الأمنية الخاصة، وتداولنا في مجريات التحقيق، واطلعت منهم على تفاصيل الاجتماع الطويل الذي عقدوه مع أعضاء لجنة التحقيق. وقالوا إن المحققين السوريين تلقوا أوامر واضحة ومباشرة بوجوب التوصل إلى عقوبات بالإعدام وتنفيذها، وإن هؤلاء لا يبدو أنهم يقيمون وزناً للاعتبارات القانونية. ومساءً، عقدت اجتماعاً طويلاً مع رئيس الجمهورية لتقويم الأوضاع والإعداد لزيارتي إلى دمشق المقررة الثلاثاء في الثامن والعشرين من شباط (فبراير) 1978.

اجتمعت يومذاك بنظيري السوري عبدالحليم خدّام عند الساعة الواحدة من بعد الظهر ثم مالبث أن انضم إلينا نائب وزير الدفاع ناجي جميل. وتناولت الجولة الأولى من المحادثات التي استغرقت نحو ساعة وربع، مسألتين أساسيتين: التحقيقات الجارية في أحداث الفياضية والتجديد لقوات الردع العربية في لبنان. تناولنا طعام الغداء في الساعة الثانية والنصف، بمشاركة العماد مصطفى طلاس وبعض كبار ضباط الجيش السوري من أمثال علي دوبا، ومحمد خولي. وساد جو ودي على المائدة. بعد الغداء، عقدنا الجولة الثانية من المحادثات التي استمرت حتى التاسعة مساء، وتطرقنا فيها إضافة إلى موضوعي الفياضية والتجديد لقوات الردع، إلى مسألة تشكيل حكومة جديدة في لبنان، والوفاق الوطني، وسياسة الرئيس المصري أنور السادات.

كان عبدالحليم خدّام شديد التصلّب، إذ كان يعتبر أنه «لن تكون هناك دولة، ولن يكون هناك جيش في لبنان، إن لم تضرب الدولة اللبنانية بيد من حديد، وتنفذ حكم الإعدام بحق الضباط المسؤولين عن أحداث الفياضية. وما هو نفع حكومة جديدة، ونفع البحث في الوفاق الوطني مادامت هيبة الدولة مفقودة؟ كل شيء يهتز في لبنان، وينذر بالسقوط». ووجه انتقادات قاسية في جميع الاتجاهات: لرئيس الجمهورية، ولرئيس الحكومة، وللجيش، ولقائده، وللضباط الذين يدينون بالولاء لأركان «الجبهة اللبنانية»، وخلص إلى الاستنتاج التالي: «عليكم أن تقرروا هل تريدون أن تكونوا موجودين أو غير موجودين؟ على ما يبدو، الرئيس الياس سركيس غير راغب في التحرك».

شعرت بأن مواقف خدّام كانت أشبه بالقصف التمهيدي الذي يسبق الهجوم المزمع أن يشنه الرئيس السوري حافظ الأسد في اجتماعنا المرتقب معه في اليوم نفسه، فآثرت ألا أكشف أوراقي كلها، واكتفيت بالتعليق على بعض الأفكار التي طرحها وزير الخارجية السورية مفضلاً الاسترسال في عرض موقفي لدى الاجتماع مع الرئيس الأسد.

قرون من العداء

استقبلنا الرئيس السوري عند التاسعة والربع ليلاً، وبدا، كعادته، لبقاً ولطيفاً، لكنه كان متصلباً جداً، وغير قابل للمساومة. افتتح الاجتماع بتوجيه انتقاد للدولة اللبنانية ولرئيس الجمهورية: «ماذا يريد سركيس؟ إذا كان الجيش تابعاً له، ليبرهن عن ذلك، وإن لم يكن بإمرته ليتركنا نتصرف. إذا لم تكن عنده رؤية مستقبلية فكل الكلام وكل التدابير لا تفيد بشيء». ووجه انتقادات عنيفة لرئيس حزب الكتائب بيار الجميل وولديه أمين وبشير ووصفهما بأنهما «عملاء لإسرائيل». وكانت تلك المرة الأول التي يتلفظ بها الأسد بمثل هذا الكلام الخطير أمامي، ما جعلني أعتبر أن الوضع أصعب مما توقعت.

استقبلنا الرئيس السوري عند التاسعة والربع ليلاً، وبدا، كعادته، لبقاً ولطيفاً، لكنه كان متصلباً جداً، وغير قابل للمساومة. افتتح الاجتماع بتوجيه انتقاد للدولة اللبنانية ولرئيس الجمهورية: «ماذا يريد سركيس؟ إذا كان الجيش تابعاً له، ليبرهن عن ذلك، وإن لم يكن بإمرته ليتركنا نتصرف. إذا لم تكن عنده رؤية مستقبلية فكل الكلام وكل التدابير لا تفيد بشيء». ووجه انتقادات عنيفة لرئيس حزب الكتائب بيار الجميل وولديه أمين وبشير ووصفهما بأنهما «عملاء لإسرائيل». وكانت تلك المرة الأول التي يتلفظ بها الأسد بمثل هذا الكلام الخطير أمامي، ما جعلني أعتبر أن الوضع أصعب مما توقعت.

لم يمنعني هذا التصعيد الكبير من المضي في التكتيك الذي بدأته مع خدام. فارتأيت أن أستهل كلامي باعتبار فكرة تنفيذ أحكام إعدام بحق الضباط اللبنانيين أمراً مستحيلاً ولا مجال للخوض فيه وأنه لابد من البحث في مكان آخر عن المخرج للأزمة التي نتخبط فيها. وقلت للأسد ولخاصته: «لا الحكم في لبنان، ولا أنتم، قادران على احتمال أمرين: عدم القيام بشيء، وتنفيذ أحكام بالإعدام. هذان الحدان خطيران للغاية لأنهما سيؤديان إلى عداوة تستمر قروناً بين لبنان وسورية، بين الشعبين والجيشين، وهذا ما لا يريده أحد، لذلك لابد من إيجاد الحل الوسط. لا أحاول التذاكي ولا المناورة. لستُ في موقع الأبرع، ولا الأقوى ولا الأذكى، فالوضع لا يسمح بمثل ذلك، إن أوراقي مكشوفة أمامكم على الطاولة، ولا مجال للألاعيب».

وعندما لاحظت أن الرئيس الأسد قد تهيب أمام ما قلته، قررت أن أسترسل، وأمضي في تكتيكي إلى ختامه: «إن لبنان لا يحتمل تنفيذ أحكام بالإعدام، وأعطيكم مثالاً على ذلك الأحكام التي صدرت بحق منفذي محاولة الانقلاب على الرئيس فؤاد شهاب في نهاية عام 1961. كان في ذلك الحين من يرى أنه يجب أن تصدر أحكام بإعدام الضباط الذين شاركوا في محاولة الانقلاب لكن الرئيس شهاب استبدل في اليوم الأخير من عهده أحكام الإعدام بالسجن المؤبد الذي خُفّض لاحقاً وانتهى الأمر بمرسوم عفو، وخرج جميع المحكومين من السجن. وفي أي حال، أعتقد أنه من المستحيل دفع القضاة اللبنانيين، في المحكمة الأمنية الخاصة التي شكّلناها، إلى إصدار أحكام بالإعدام. وإذا أصرّ القضاة السوريون على الحكم بالإعدام فسيقع انقسام، والنتائج المترتبة على مثل هذا الانقسام وخيمة على البلدين».

وبعدما لمست أن الرئيس الأسد قد استشعر خطورة ما قلته، وقبل أن أطلب إليهم الكف عن الإصرار على أحكام بالإعدام، رأيت أنه لابد من أن أقدّم للسوريين بعض التطمينات على الأقل، فأضفت: «طبعاً، هذا يعني أن علينا أن نأخذ إجراءات جذرية لمنع تكرار حصول اشتباكات بين الجيشين اللبناني والسوري، كإجراء تشكيلات واسعة في صفوف الجيش، وتشديد قبضة الحكم على قيادته، والعمل على تحقيق الوفاق الوطني، وتفعيل العمل الحكومي، وأعتقد أن كل ما هو مطلوب في المقابل هو عدم تسريع إجراءات هيئة التحقيق المختلطة في المحكمة الأمنية الخاصة».

سياسة السيف المصلت

انتهى الاجتماع عند الثانية عشرة والنصف ليلاً، فأمضيت ليلتي في أحد فنادق دمشق، في ما علمتُ لاحقاً أن الرئيس حافظ الأسد ومعاونيه وفي مقدمهم عبدالحليم خدّام، عقدوا اجتماعاً بعد مغادرتي دام أكثر من ساعة للبحث في ما طرحته من أفكار. وقبيل عودتي إلى بيروت، صباح اليوم التالي، في الأول من آذار (مارس)، مررت عند العاشرة بخدّام وفهمت منه أنه بنتيجة مداولاتهم الليلية مع الرئيس الأسد، قرروا الامتناع عن طلب أحكام بالإعدام، ولكنه أصر على فكرة ألا تقوم الحكومة اللبنانية بإعلان هذا التوجه حتى لا تمس معنويات الجيش السوري الذي قد يتأثر من جراء إعلان كهذا. وأضاف: «يجب الاستفادة من السيف المصلت الذي تشكله المحكمة الأمنية الخاصة والتلويح بأحكام الإعدام لتحقيق بعض الأمور. على الرئيس سركيس أن يتحرك ويعالج ما يقتضي المعالجة بحزم». ثم أردف خدام قائلاً: «يقول لك سيادة الرئيس إن له ثقة كبيرة بك، تصرّف في الشكل الذي يحافظ على كرامة الجيش السوري ومعنوياته».

في الثالث عشر من آذار (مارس)، اجتمعت مع الرئيس كميل شمعون وأوضحت له وجهة نظري من التشكيلات في الجيش التي أثارت استياءه. وبدا لي، ربما بدافع من براغماتيته، أنه تخطى المسألة، ووعد شمعون بدعم مشروع الوفاق الذي كنا نعمل عليه لكنه تمسك بصلاحية رئيس الجمهورية في حل الحكومة، غير أن الرئيس سليمان فرنجية كان يعد لنا المفاجأة الكبرى، كنت أعلم أنه مستاء جداً من نقل العقيد أنطوان بركات من مركزه، ومن تلكؤ بعض الوزارات والمؤسسات العامة عن تلبية الخدمات التي كان يطالب بها لمناصريه. وكنت أتوقع أن أمضي معه في الرابع عشر من آذار (مارس) عشر دقائق أطلعه خلالها على الورقة الإصلاحية وأحصل على موافقة منه عليها، فكان أن عقدت معه اجتماعاً دام أكثر من ساعتين ونصف في منزله بعدما رفض بعنف المقترحات المطروحة في مسودة الوفاق الوطني. وقال لي: «كيف نتنازل ونعطي ما سبق لنا أن رفضناه؟ لقد رفضت أثناء ولايتي التنازل عما يُضعف رئاسة الجمهورية، وبعد جهد كبير توصلنا إلى اتفاق على «الوثيقة الدستورية» في شباط (فبراير) 1976، وسقط بعدها عشرون ألف قتيل، ووقعت خسائر بالمليارات، هل لنعود وننزل تحت سقف «الوثيقة الدستورية؟».

أما مفاجأة الرئيس سليمان فرنجية الكبرى يومذاك، فكانت اعتباره أن «الفدرالية هي الحل الأنسب للبنان». نزل هذا الاقتراح عليّ كالصاعقة لأنه يعني باختصار فشل كل المساعي التي قمنا بها، وأيقنت بعد هذا الاجتماع أننا أخطأنا بتحديد الخامس عشر من آذار (مارس) مهلة لإعلان مشروع الوفاق الوطني الذي يبدو أن دونه عقبات وعثرات كثيرة. قررت أن أخصص بقية النهار في منزلي للتفكير في ما يمكن عمله في اليوم التالي حتى لا تضيع فرصة التوصل إلى وفاق وطني.

يتبع