فتاواهم وعقولنا... مواجهة مستمرة!

نشر في 14-10-2008
آخر تحديث 14-10-2008 | 00:00
 حمد نايف العنزي بعد قراءتي بعض الرسائل التي تصلني على بريدي الإلكتروني، والتي لا تخلو من بعض الشتائم والاتهامات والدعوات لي بسوء المنقلب والمصير من حين لآخر، أصبح لدي يقين بأن بعض القراء يقرؤون المقالات قراءة شكلية محضة، يمرون بأعينهم على الكلمات من دون فهم معناها أو إدراك مغزاها، وهم على أهبة الاستعداد للحكم على الكاتب بسوء النية ومعاداة الدين من أبسط كلمة يسيئون تفسيرها، وهو أمر غير مستغرب من أنصار السذاجة والسطحية، الذين حولوا الدين الإسلامي العظيم إلى شكليات وقشور ومظاهر خارجية، وأصبح جل همهم وحماسهم هو الدفاع عن آراء وفتاوى سخيفة ومضحكة، كمعاداة الميكي ماوس، وقتل أصحاب الفضائيات، وجلد الكتّاب والصحافيين، وتحريم التهادي بالزهور، ومحاربة القرقيعان والعيدية، وتحريم أكل الزلابية في رمضان!

ولا يهمهم بعد هذا أن يكون للإسلام غاية أعمق وأشمل من هذه التفاهات، غاية من أجلها هبطت هذه الرسالة السماوية لتشكل إيمان وضمائر الناس في كل زمان ومكان، لينعكس ذلك على سلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتهم مع باقي البشر على اختلاف أشكالهم وألوانهم ومعتقداتهم... رحم الله أبا الطيب المتنبي حين قال عن أمثالهم:

أغاية الدين أن تحفوا شواربكم

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم؟!

عجبا لهذه الحساسية المفرطة، وهذه الألسنة السليطة ضد كل من ينتقد فتوى ساذجة أو رأيا أحمقَ ينطق به فقيه أو عالم عن أي أمر من أمور الدين، وكأنما ارتكب منتقدوه كبيرة من الكبائر، أو شنيعة من الشنائع، يأتيك أحدهم هازئا ليقول: مالك أنت والخوض في المسائل الدينية، إنه عمل الفقهاء والعلماء، وهم بحكم دراستهم الدينية أكثر علما منك وأكثر دراية بمصلحة الإسلام والمسلمين؟!

وأقول نعم، كلام صحيح، لكن ليس في المطلق، لأن الله مثلما أعطاهم علما شرعيا أعطانا أيضا عقولاً نفكر بها، وأفئدة نميز بها الخطأ من الصواب، والحلال من الحرام، كما قال رسولنا الكريم «استفت قلبك وإن أفتاك الناس» وقوله أيضا «الحلال بيّن والحرام بيّن»، أما الحديث عن شؤون المسلمين فهو حق أصيل لكل مسلم، ولا يجوز لأحد -مهما بلغ علمه- أن يحجر على آراء الآخرين بحجة قلة علمهم الديني وعدم التخصص فيه.

ولنا في سيرة أصحاب رسول الله كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما أسوة حسنة، حين طلب أبو بكر وهو خليفة المسلمين من أي مسلم أن «يقوّمه إذا انحرف» أي أن صاحب النبي وأقرب الناس إليه وأكثرهم فهماً لرسالته من الجائز أن يخطئ، وأن من واجب أي مسلم أن يصحح له هذا الخطأ، ويقول له رأيه مهما صغر شأنه وتواضع فكره، وكذلك فعل الخليفة عمر بن الخطاب الذي لم تمنعه مكانته وعلمه من أن يقول «أخطأ عمر وأصابت امرأة»، ولم تكن هذه المرأة عالمة أو فقيهة بل امرأة عادية، لم يقل لها عمر بأنه صاحب رسول الله، وأنه أفهم منها بالدين، وأن كل ما يجب عليها فعله كمؤمنة صالحة أن تسمع وتطيع من دون أن تعترض بكلمة واحدة!

لماذا يصر البعض على تحويل هذا الدين العظيم، هذا المحيط الواسع الكبير، الذي يحق لجميع المسلمين أن يغترفوا منه قدر ما يشاؤون، إلى بئر صغيرة يقوم عليها قوم مدججون بأسلحة التطرف والتشدد والغلو ليحتكروا وحدهم فهمه وإدراكه، ويحجروا على عقول الآخرين مهما بلغ نبوغها من أن تفهم الدين ومعانيه وغاياته، إلا من خلال فهمهم وإدراكهم الخاص له!

من حق أي مسلم أن يختار من الفتاوى ما يرى أنها الأقرب إلى الصواب، والأبعد عن التعارض مع العقل والمنطق، ويطمئن لها قلبه أكثر، ومن حقه أيضا أن يخطئ في فهمه بعض أمور دينه، وأن يعترف بالخطأ متى أدركه، لأن الله أرسل رسالته لنا وهو يعلم بأننا لسنا ملائكة معصومين إنما نحن بشر نخطئ ونصيب، وهو وحده بالتالي من سيحاسبنا على أخطائنا أو يغفرها لنا، أما من ينصبون أنفسهم وكلاء على دين الله وأوصياء على خلقه، رافضين أي انتقاد يوجه إلى آرائهم وفتاواهم، فهم في واقع الأمر قد رفعوا أنفسهم لمرتبة الرسل والأنبياء المعصومين دون أي تكليف إلهي!

الإسلام أيها السادة الأفاضل ليس سلعة لتحتكر، وليس دينا للخاصة أو القلة من الناس ممن يريدون أن يكونوا «الكل بالكل»، ويرغموا الناس على اتباع منهجهم وفكرهم المتشدد، ليحولوا «بعقولهم الصغيرة» أعظم رسالة سماوية عرفها الإنسان، إلى أداة بطش واتهام وإرهاب، وكأنهم وحدهم المسلمون المؤمنون المخلصون وباقي الخلق كفرة جهلة منحرفون، ليس لهم أدنى قدرة على التمييز بين الفتاوى والآراء التي تسندها النصوص الصريحة، وتتوافق مع العقل والمنطق، وتلك التي مصدرها الرجعية والخرافة والسذاجة والتخلف!

back to top