Ad

إن أساس حل الأزمة اللبنانية يتطلب من الجميع الاعتراف بالواقع المرَضي أولاً، كذلك الاعتراف بأن الصراع اليوم ليس طائفياً، ولن يكون مذهبياً، بل هو صراع سياسي بامتياز بين مشروعين سياسيين يتعلقان بالمقاومة ودورها وسلاحها وتأثيرها في المحيط العربي والإقليمي وربما العالمي أيضاً.

قبل الحسم العسكري في بيروت الغربية وفي بعض مناطق جبل لبنان، وقبيل انعقاد قمة الدوحة التي اجترحت «المعجزة» ولو مؤقتاً، زار بيروت رئيس البرلمان العربي والنائب الكويتي محمد جاسم الصقر حيث أدلى بدلوه لفهم الأزمة تمهيداً لاقتراح الحل، وبالتالي محاولة إنقاذ لبنان من الشر المستطير. زار الصقر معظم السياسيين أصحاب القرار من الفئتين المتصارعتين، بالإضافة إلى كبار المسؤولين وعلى رأسهم رئيس المجلس نبيه بري. ثم خرج ليضع الأصبع على الجرح وينادي بضرورة عقد «طائف جديد» يعيد التوازن إلى الحياة السياسية في لبنان ذي الـ18 طائفة والحبل على الجرار.

كان الصقر الصوت الخليجي الوحيد الذي شخّص «المرض اللبناني» ووصف «الدواء» متجاهلاً أصوات احتجاج السياسيين الذين لهم مصلحة في استمرار الداء. بينما اكتفت الأصوات الخليجية الفاعلة، التي تدعي حبها للبنان ولشعبه، بالصمت الخجول، رافعة شعار المصالحة بأسلوب «تبويس اللحى» بواسطة تطبيق مبدأ «لا غالب ولا مغلوب»... هذا الاختراع اللبناني القديم العهد، الذي أكل عليه الدهر ولم يشرب بعد، والذي لم يعد صالحاً لحل هذه الأزمة وما ستولده من أزمات، لا من قريب ولا من بعيد. بالإضافة إلى أنه ينسف مبدأ الديمقراطية التي يتغنون بها.

إن شعار «لا غالب ولا مغلوب» هو نقيض الديمقراطية لأنه يلغي حرية الاختيار الشعبي لحكامه، ويكرّس اختيار الحكام لأنفسهم طالما أنهم يمثلون جزءاً من هذه الطائفة أو تلك. إن «لا غالب ولا مغلوب» هو في الحقيقة مجموعة قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أي زمان وفي كل مكان.

لماذا تحول هذا الشعار إلى قنابل قاتلة بعد أن كان في الماضي القريب الدواء الشافي؟

في العام 1958، وبعد إعلان الوحدة العاطفية غير المدروسة بين مصر عبد الناصر وسورية حزب البعث وشكري القوتلي، رأى الفريق المسيحي في لبنان خطأً أن هذه الوحدة تشكل خطراً على كيان المسيحيين وتواجدهم الفعلي والسياسي في لبنان، خصوصا أن هذا الفريق اعتبر، ولايزال، أن إنشاء الكيان اللبناني المستقل عن سورية في أعقاب الحرب العالمية الأولى كان بمنزلة «هدية» من الغرب المنتصر في الحرب للفريق المسيحي. يعني أنه لولا الوجود المسيحي لبقي لبنان قطعة من الأرض السورية. يضاف إلى هذه القناعة–الوهم تحريض إدارة الرئيس الأميركي أيزنهاور في حينه والغرب عامة الفريق المسيحي ضد هذه الوحدة لاعتبارات لا علاقة لها بمصلحة المسيحيين بل خدمة لمشروع أيزنهاور الذي عرف في ذلك الحين بـ«حلف بغداد» والذي قاومه عبدالناصر حتى النفس الأخير وانتصر عليه. وهكذا حصلت في لبنان ما يسمى بـ«ثورة» الـ58 حيث انقسم اللبنانيون إلى طائفتين مسيحية وإسلامية. وجرى الاقتتال تحت هذا الشعار البغيض. ثم جاء قائد الجيش في حينه فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية نتيجة مساومة بين عبدالناصر والإدارة الأميركية التي لم تكن اتخذت قرارها النهائي بعد بالخلاص من الزعيم المصري وما يمثله من «بعث» القومية العربية من المحيط إلى الخليج.

في تلك الفترة كان لابد للرئيس شهاب من أن يلملم أطراف شعبه المنقسم والمتقاتل بالسلاح وبالعقيدة معاً، فطلع بشعار «لا غالب ولا مغلوب» بين المسيحيين والمسلمين، وليس بين فئة سياسية ضد أخرى. ونجح هذا الشعار في استعادة وحدة اللبنانيين الوطنية، لكن سرعان ما أصيبت هذه الوحدة بنكسة في السبعينيات نتيجة انتقال الثوار الفلسطينيين من الأردن، بعد أيلول الأسود، إلى لبنان. وتحركت المشاعر المذهبية لا الطائفية، فكانت الحرب الأهلية هذه المرة تختلف عن حرب الـ58 من حيث المضمون والجوهر. فبينما كانت الحرب بين طائفتين، صارت بين مشروعين سياسيين: مشروع مقاوم لإسرائيل، والآخر يرى أن لبنان لن يستطيع دفع ثمن المقاومة. إن أحداث الحرب الأهلية تثبت بما لا يقبل الجدل أن مسيحيين كثراً انخرطوا وقاتلوا مع الفريق المقاوم، وكذلك فإن مسلمين كثر فعلوا الشيء نفسه وانضموا إلى الفريق الآخر. لذلك فإن حرب الـ75 الأهلية كانت ذات طابع سياسي بين مشروعين، ولم تكن حرباً بين طائفتين. وهُجِّرَت المقاومة الفلسطينية من لبنان إلى تونس في العام 1982، لكن الاقتتال استمر ولم يأخذ صفة الحرب الطائفية، بالرغم من المحاولات الكثيرة، من الشرق ومن الغرب، لجعلها كذلك. وكان مؤتمر الطائف في بداية التسعينيات الذي رفع هو الآخر شعار «لا غالب ولا مغلوب» لوقف الاقتتال بين الفريقين السياسيين لكن «الطائف» ذهب إلى أبعد من ذلك. فقد استغل تعب وإرهاق اللبنانيين من القتال، وبالتالي استعدادهم لقبول أي مشروع يؤدي إلى وقف الحرب، فأخذ من المسيحيين أكثر مما يجب أن يؤخذ، وأعطاه إلى فريق من المسلمين حيث صارت رئاسة الجمهورية، في دستور الطائف، من دون أنياب، ورئيسها عبارة عن «باش كاتب» أو صندوق بريد، والصلاحيات المعطاة له لا تسمن ولا تغني من جوع. وبدلاً من أن ينصف الطائف جميع الطوائف لدوام الاستقرار في لبنان، ويضع أسس التوازن الطائفي، أو يلغي الطائفية السياسية فعلاً لا كتابةً كرّس «الطائف» انقسام الـ18 طائفة، ووضع صيغاً متعددة لحروب مستقبلية، ثم شرذم الفئات السياسية بحيث أصبحت تنتمي إلى المذهب لا إلى المشروع السياسي. والدليل الحي على صحة هذا القول ما يحدث الآن. فمؤتمر الدوحة رفع هو الآخر شعار «لا غالب ولا مغلوب» وكانت النتيجة أن قراراته جاءت بمنزلة تكريس وتثبيت لأخيه «الطائف» الذي عالج ويعالج مرض لبنان العضال بحبة أسبرين. وعندما رجع الجميع من الدوحة، كان مفعول الأسبرين قد انتهى، وعاد لبنان يعاني الصداع الشديد الوطأة والألم. لذلك لم تنجح محاولات تشكيل حكومة ما يسمى بـ«الوحدة الوطنية» إلى حين كتابة هذه الأسطر. وفي حال النجاح فإن الحكومة المنوي تشكيلها لا يصح تسميتها بحكومة الوحدة، بل بحكومة نقل الصراع إلى مجلس الوزراء، مع الإبقاء على حالة التوتر المتفجر في الشارع المنقسم على نفسه. كل ذلك بسبب اعتماد شعار «لا غالب ولا مغلوب» الذي، كما قلنا، قد عفى عليه الدهر ولم يعفُ عنه.

إن أساس حل الأزمة اللبنانية يتطلب من الجميع الاعتراف بالواقع المرَضي أولاً، كذلك الاعتراف بأن الصراع اليوم ليس طائفياً، ولن يكون مذهبياً، بل هو صراع سياسي بامتياز بين مشروعين سياسيين يتعلقان بالمقاومة ودورها وسلاحها وتأثيرها في المحيط العربي والإقليمي وربما العالمي أيضاً. والكلمة الأخيرة في هذا الصراع يجب أن تكون لصوت الأكثرية بالأسلوب الديمقراطي الذي يدّعي الجميع التعلق به والرغبة في تطبيقه. فلماذا لا ننتظر الانتخابات النيابية القادمة ونتائجها لتقول الكلمة الفصل في هذا الصراع، شرط أن تجري بمنتهى الشفافية ومن دون ضغط أو من يضغطون سواء باستخدام السلاح الناري وقدرته في السيطرة على الشارع، أو سلاح المال السياسي الذي هو أشدّ قتلاً وفتكاً. فالسلاح الناري يقتل الإنسان الفرد أو المجموعة، أما السلاح المالي فهو يبيد الإرادة الوطنية برمتها. وبين هذا وذاك من الضروري إعلان وفاة شعار «لا غالب ولا مغلوب» وولادة شعار: «الأكثرية تحكم». هذا هو طريق الخلاص ولا شيء آخر.

* كاتب لبناني