كل شيء في الولايات المتحدة يسير على طريقة السيناريوهات الهوليوودية، وبصورة خاصة الأعمال والمهمات التي تقوم بها المخابرات المركزية الأميركية، صغيرة كانت أم كبيرة. ففي أوائل الشهر الماضي حطت في السفارة الأميركية في بيروت في منطقة عوكر طائرة هيلكوبتر عسكرية قيل إنها جاءت من قاعدة أميركية في قبرص على متنها مدير الـCIA مايكل هايدن الذي يشغل نائب مدير الـNSA التي تعمل استخباراتياً بواسطة الأقمار الصناعية في كل العالم والذي قالت عنه مجلة «التايم» عند تعيينه في المخابرات المركزية إنه «على علاقة وثيقة بتشيني».

Ad

قضى هايدن ساعات قليلة في بيروت، وليس بالإمكان تحديد أسماء الذين قابلهم من اللبنانيين وكذلك المهمة التي جاء من أجلها، والتي استلزمت أن يأتي شخصياً، وهي حركة نادرة الحدوث، إلا إذا كانت المهمة خارج إطار العادة.

المثير أنه بعد أن غادر الأراضي اللبنانية تسرّب خبر عزمه على زيارة لبنان. أي أنه زار وسافر ثم أعلن بشكل شبه رسمي رغبته في الزيارة. وهذا أسلوب مخابراتي أميركي معروف يقصد منه التغطية على الزيارة أولاً، وفي حال شيوعها منع وقوع البلد الذي زاره من الإحراج. وقد أكد لي أكثر من مصدر عسكري وأمني لبناني حدوث هذه الزيارة. والاعتقاد السائد بأن هايدن قد اجتمع بكبار مسؤولي قادة الأمن، وربما- وهذا ليس ثابتاً- قد اجتمع برئيس الجمهورية دون غيره من المسؤولين الحكوميين، أما مواضيع البحث فلاتزال تحاط بستار كثيف من الكتمان، فمن المحتمل أن تكون قد تناولت موضوع الإرهاب بشكل عام، ودور الولايات المتحدة في «مساعدة» السلطات اللبنانية في حربها ضد «الإرهاب». كذلك من المحتمل ومن المعقول أن يكون البحث قد تطرق أيضاً إلى موضوع «حزب الله» ودور سورية والمخيمات الفلسطينية في ضوء الملف الذي حمله معه هايدن، خصوصا بعد أن أصبحت واشنطن مقتنعة بأن شمال لبنان، إذا تُرك له الحبل على غاربه، يمكن أن يتحول إلى «خلية نحل» للإرهابيين الذين سوف يتطلعون إلى القيام بعمليات خارج الحدود اللبنانية، أي في أوروبا، وربما في الولايات المتحدة بالذات.

كذلك تريد واشنطن أن تتأكد وتطمئن إلى أن الخلل الذي أحدثته سياستها الخاطئة في التركيبة اللبنانية يمكن إصلاحه قبل فوات الأوان. وأيضاً تريد واشنطن أن تؤكد إصرارها على أن لبنان قاعدة سياسية وأمنية «موالية» لها. وهذه استراتيجية متفق عليها بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

وهناك عامل مهم جداً يضاف إلى العوامل الأخرى، وهو أن واشنطن تخشى أن يقوم صانعو القرار اللبناني، خاصة بعد الانتخابات النيابية في ربيع 2009، إلى الاعتماد على إيران بتسليح الجيش اللبناني بأسلحة نوعية يتمكن بواسطتها من الحفاظ على الحدود والسدود والأجواء اللبنانية من اختراقات واحتمالات العدوان الإسرائيلي. وقد سبق لإيران أن قدمت للبنان عرضاً مغرياً بتقديم ما يلزم الجيش اللبناني من أسلحة متطورة جداً، مع أجهزة رادار ذات تقنية عالية، بعضها بسعر الكلفة، والبعض الآخر «هدية». أما سعر الكلفة فإن طهران أبدت استعدادها بـ«قبض الثمن المالي» على أقساط لا ترهق كاهل الخزينة اللبنانية ومن دون فوائد. ويبدو أن هذا العرض الإيراني (أشرت إليه في مقال سابق) انتقل من التلميح إلى التصريح، غير أن القبول به يحتاج إلى شبه إجماع لبناني على الصعيدين السياسي والشعبي. من هنا فتحت طهران أبوابها للسياسيين اللبنانيين، خصوماً وأصدقاء، لعلها تحصل على هذا الإجماع المطلوب. ومن المنتظر أن يتحرك هذا الموضوع بشكل عملي وعلني بعد الانتخابات النيابية. كذلك من المتوقع أن يثار موضوع التسليح، وربما بشكل سري، خلال الزيارة المرتقبة للرئيس اللبناني ميشال سليمان لإيران في الأشهر القليلة المقبلة. وهذا ما يقلق واشنطن، لأنه بالطبع يقلق إسرائيل، التي تعمل ما بوسعها لإيقاف أو إجهاض هذا المشروع. وقد دقـّت واشنطن أجراس الخطر القادم إلى المنطقة، فدعت ما يسمى بـ«دول الاعتدال العربي»، وعلى رأسها مصر والسعودية والأردن للعمل معها على إسقاط هذا المشروع. وهذا ما يفسر النشاط المصري في اتجاه لبنان وعلى مختلف الصعد وكذلك النشاط السعودي والأردني على حد سواء.

في هذا المجال قال لي مصدر لبناني موثوق إن زيارة نائب رئيس المخابرات المصرية إلى لبنان هي حلقة من سلسلة لبحث مواضيع الزيارة السرية التي قام بها الأدميرال هايدن مدير الـCIA. وقيل أيضاً إن المخابراتي المصري ذكر لبعض أصدقائه من كبار السياسيين اللبنانيين (ربما فؤاد السنيورة) ما يلي: «كنا بمشكلة وقف تسليح «حزب الله» من إيران، فصرنا اليوم أمام مشكلة وقف تسليح الجيش اللبناني بأسلحة إيرانية الصنع... كذلك يجب التحرك بسرعة لمنع وقوع هذه «الكارثة» على المنطقة وليس على لبنان وحده». غير أن تسليح الجيش اللبناني يحتاج إلى ضوء أخضر سوري لم يتم الحصول عليه إلى الآن، لكن تطورات العلاقات الإيجابية بين لبنان وسورية من جهة، وبين طهران من جهة أخرى، تدفع إلى القناعة بعدم صعوبة الحصول على هذا الضوء الأخضر. لذلك فإن واشنطن أظهرت «كرماً زائداً» باتجاه تسليح الجيش اللبناني بأسلحة أميركية الصنع. فالمعلومات الموثوقة تفيد ما يلي: طلبت واشنطن من لبنان أن يتقدم بطلب تزويده بـ10 إلى 12 طائرة هيلكوبتر قاذفة ومقاتلة من نوع «كوبرا». تقدم لبنان بهذا الطلب وهو «قيد الدرس» في واشنطن. ومن المتوقع أن تصدر الموافقة الأميركية قبل نهاية هذه السنة. غير أن المصادر العسكرية اللبنانية ترسم أكثر من علامة استفهام حول هذه الصفقة. أولاً لأن «الكوبرا» أصبحت قديمة الصنع وتعود إلى جيل 1965. وقد أحيلت إلى التقاعد في الترسانة الحربية الأميركية في العام 2001، بعد أن أثبتت عدم جدارتها في حرب العراق قبل الغزو. وتوقفت مصانع الذخيرة الأميركية عن إنتاج قطع الغيار. وهذا النوع من الطائرات موجود في الأردن وفي إسرائيل. والعرض الأميركي يقضي بأن تشتريها من الأردن مع قطع الغيار المتوافرة لها، وتدفع واشنطن ثمنها من المعونة العسكرية المخصصة للبنان. وفي حال موافقة لبنان على الصفقة، فهذا يعني منح المملكة الهاشمية يداً أطول مما هي عليه الآن في الشأن العسكري اللبناني. بالإضافة إلى السيطرة على كيفية استخدامها مع شرط واضح هو أنها لا تستخدم ضد إسرائيل، (أي في العمق الإسرائيلي) بل للدفاع في حال وقوع هجوم إسرائيلي على لبنان.

الخبراء العسكريون في القيادة اللبنانية لم يظهروا حماساً ملموساً تجاه هذا العرض التسليحي الأميركي وإن كانوا يرغبون في الموافقة عليه، باعتبار أن حصولهم على شيء، مهما كان تافهاً، أفضل من عدم الحصول عليه... لكن دون شروط ملزمة تكبّل أيدي القيادة اللبنانية.

أما المساعدات العسكرية الأخرى التي عرضت واشنطن تقديمها للجيش، فهي بمجملها تستخدم في حرب الشوارع، ولا تزيد من قدرة الجيش اللبناني على المواجهة مع إسرائيل ولا تنقصها.

* كاتب لبناني