جو ثقيل من القلق الممزوج بالخوف عاد يسيطر على اللبنانيين بفئاتهم المختلفة: العامل في مصنعه، والموظف في دائرته، وربة البيت في منزلها، والسياسي في فيللته الأنيقة، والوزير في مكتبه الذي كلف الخزينة أكثر من مليون دولار، ورئيس الحكومة في سراياه الكبيرة التي تحولت الى فندق خاص 7 نجوم له ولوزرائه ولأحبابه، ورئيس الجمهورية في قصره المنيف، المحصّن وكأنه «فورت نوكس» حيث يوجد المخزون الأميركي من الذهب. هذا القلق لا يعود إلى الخوف من قيام حرب أهلية أو طائفية أو مذهبية بين اللبنانيين شبيهة بأحداث عام 1975.. فهذا النوع من الحروب قد ودعه اللبنانيون إلى غير رجعة. فما كان ينطبق على معطيات الحرب السابقة، لم يعد يتلاءم مع الظروف الحالية لا من قريب ولا من بعيد. ويمكن القول إلى درجة التأكيد إن اللبنانيين- لا الحكام- أنفسهم قد تغيروا، إلا قلة قليلة منهم ماتزال تصغي بكلتا أذنيها إلى ما يقوله الشرق والغرب من دون الاستماع إلى صوت الضمير الوطني. حتى هذه القلة بدأت تتبخر نتيجة المصالحات التي سيطرت على جو لبنان من أقصاه إلى أقصاه. إن القلق المسيطر على الجو اللبناني وربما على الجو الإقليمي والعالمي مرده التهديدات الإسرائيلية المتلاحقة. أقول القلق وليس الخوف أو الرعب. وهناك فارق كبير في المعنى وفي المعطيات لمفهوم هاتين الكلمتين. والقلق في هذا المجال يحمل طابع الشرعية، أي أنه قلق مشروع يدفع إلى الحذر وليس إلى الاغراق في الخوف إلى درجة الإصابة بمرض «البرانويا» حسب تعبير علماء النفس.

Ad

أيام زمان، أي قبل انسحاب إسرائيل من جزء كبير من أرض لبنان في عام 2000 تحت تأثير ضربات المقاومة، كان تصريح واحد من ناطق بلسان جيش العدو يلهب عواطف اللبنانيين ويدفعهم إلى الاختباء أو الهجرة. أما اليوم، فإن التصريحات المتتالية للمسؤولين الإسرائيليين جميعهم بتهديد لبنان بالويل والثبور وعظائم الأمور لم تعد تحرك فيهم عناصر الخوف الأعمى. وتلك إحدى نتائج خسارة إسرائيل «حرب تموز» 2006. ومن دون مبالغة فإن اللبنانيين قفزوا فوق حاجز الخوف والرعب من كل ما هو إسرائيلي، ولم يعد بمقدور الدولة العدوة أن تستخدم هذا السلاح لكسب المعركة قبل أن تخوضها. ولعل أهم ما حققته «حرب تموز» هو نقل المعركة للمرة الأولى إلى الأرض الإسرائيلية بينما كانت إسرائيل تخوض في السابق معاركها ضد العرب وضد اللبنانيين على أرضهم وبأرواح وممتلكات أبنائهم. هذا الكلام ليس جديداً، بل سبق وتردد في أكثر من مناسبة، لكن لا بأس من ترديده كلما دعت الحاجة حتى يلتصق بالذهن ويعطي دفعات من الثقة بالنفس من شأنها أن تزيل الوهم الكبير بأن إسرائيل دولة لا تقهر. ما يزيد القلق، وليس الخوف، أن وزيرة الخارجية «تسيبي ليفني» في حكومة التعس أولميرت قد قهرت الرجال في حزبها وفازت بالرئاسة، وهي اليوم في طريقها إلى تشكيل حكومة جديدة قد ترى النور في الأسابيع القليلة المقبلة. وفي إسرائيل اليوم تضارب في الرأي حول تحديد أبعاد شخصية «شقراء تل أبيب» التي انتقلت من وراء كواليس السياسة الإسرائيلية لتقفز إلى القمة في وقت قياسي مما يذكرني ببيت من قصيدة لشاعر لبناني لم يمض على رحيله الزمن الطويل:

ما كانت الحسناءُ ترفعُ سترَها لو أن في هذي الجموع رجالا

ولأن لكل سياسي مثله الأعلى الذي يحتذي به، فإن «شقراء تل ابيب» حائرة بين ثلاثة اتجاهات. لكن ما يظهر على السطح يدل على وجود «ثلاثية» في الانتماء بشخصيتها. فهي أولاً ترغب في أن ترث حسنات غولدا مائير دون سيئاتها. ومن سيئات غولدا التي لن ينساها التاريخ الاسرائيلي أن المصريين خدعوها في حرب 73 حين فاجأوها بالهجوم على الضفة الشرقية لقناة السويس وتمكنوا من تحريرها في عصر ذلك اليوم التاريخي المشهود، بينما كانت غولدا وجنرالاتها، وعلى رأسهم شارون، يغطون في سبات ديني عميق احتفالاً بعيد «يوم الغفران». ولو لم تسارع الولايات المتحدة، عبر هنري كيسنجر اليهودي الأصل والميول وصاحب الرأي الاقوى في صناعة القرار الاميركي آنذاك إلى إقامة جسر جوي لإمداد إسرائيل بكل ما لدى الترسانة الأميركية من أسلحة تقليدية وغير تقليدية.. لو لم تفعل واشنطن ذلك، ولو لم يطلب الرئيس السابق أنور السادات بإصرار وعناد ألا يتعدى الهجوم المصري حدود ما يسمى عسكرياً بـ«الممرات» داخل سيناء، لكان الجيش المصري قد حرر سيناء بكاملها في يوم أو يومين، وفرض شروط السلام على إسرائيل بدلاً من أن تفرض علينا شروط الاستسلام التي مازالت سارية المفعول إلى يومنا هذا. لو حدث ذلك لكانت أزمة الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي ما تبعها من أزمات في منطقة الشرق الأوسط في خبر كان. وعندما قيل لأنور السادات في اجتماع القيادة العسكرية المصرية في اليوم الأول لتحرير الضفة الشرقية من قناة السويس إن ظروف ومعطيات المعركة على الأرض تتطلب تغيير الخطة السابقة وبالتالي التقدم إلى الأمام قبل أن تستيقظ إسرائيل من سبات «يوم الغفران» صرخ بصوته الجمهوري: هذه حرب تحريك وليست حرب تحرير. ودبّ الخلاف في القيادة العسكرية العليا مما دفع رئيس الأركان في ذلك الوقت الشاذلي إلى الاستقالة، أو الإقالة. والشاذلي على فكرة هو بطل العبور الحقيقي عسكرياً، بينما السادات بطلها سياسياً. إن العودة إلى ذكر هذه التفاصيل المسجلة في قلب التاريخ يدفع إلى القول إن السادات لو استمع إلى صوت الضباط المحترفين، وكلهم من مدرسة جمال عبد الناصر، وتخطى الحدود الموضوعة في الخطة العسكرية، لكانت المنطقة اليوم تعيش في أمان واطمئنان. نعود إلى ليفني وإلى ثلاثية الأبعاد في شخصيتها فهي ستحاول أن تمحو خطأ غولدا مائير في يوم الغفران لإعادة دور المرأة اليهودية في قيام دولة إسرائيل. أما البُعد الثاني، فهو ارييل شارون بعنفه ومغامراته ووحشيته. فهي صهيونية العقيدة والعُقـَد، وتنتمي الى المدرسة الشارونية، وتؤمن بأن مستقبل اسرائيل مرهون بإزالة كل من يهددها، حرباً او سلماً، حتى ولو ادى ذلك الى ابادة الجنس العربي كما فعل المستوطنون الأميركيون الأوائل بملايين الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين. وبين خطأ غولدا مائير ووحشية إرييل شارون، يبرز في شخصيتها البعد الثالث المتمثل بفكر وفلسفة اسحق رابين الذي يتناقض تماماً مع توجهات مائير وشارون، خصوصا في المرحلة الأخيرة من عمره القصير. فرابين ترك إرثاً تتبناه اليوم الأغلبية من المثقفين الإسرائيليين من الجيل الثاني، ويدعمه من هم على قيد الحياة من الجيل الأول الذي ساهم في قيام دولة اسرائيل. هذا الإرث يدعو إلى الحفاظ الدائم على الدولة الإسرائيلية عن طريق الانضمام إلى عائلة الشرق الاوسط. ولكي تقبل العائلة العربية الكبيرة بإسرائيل بين ظهرانيها يجب العمل على إقامة سلام شبه عادل مع الجيران الأقرب والأبعد من العرب، وأن تستبدل إسرائيل سلاح القوة العسكرية بسلاح القدرة الاقتصادية لفرض سيطرتها على من حولها وحواليها. وفلسفة رابين الجديدة لاقت، في وقتها، قبولاً بل وتشجيعاً من حلفائها الدائمين في أوروبا وفي الأميركيتين وحتى في الأنظمة العربية صاحبة القرار المؤثر. وعندما شعر الصهاينة المتعصبون لعقيدة تحقيق نبوءة العهد القديم في قيام الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات كمرحلة أولى. ومن ثم السيطرة على العالم بأسره، بخطورة طرح رابين داخل المجتمع اليهودي أقدموا على اغتياله فاثبتوا بذلك تهمة ونبوءة العهد الجديد المذكورة في التوراة بأن إسرائيل لا تقتل أعداءها فحسب، بل وأنبياءها أيضاً. ولا يجب أن يغيب عن البال أن غلاة الصهاينة من هؤلاء هم من المستوطنين اليهود الذين يحملون الجنسيتين الأميركية والإسرائيلية، وهم بالتالي، باعتراف أكثرية المفكرين السياسيين في واشنطن، العقبة الرئيسية اليوم في منع قيام سلام دائم وعادل في منطقتنا.

في حال نجاح ليفني في تشكيل الحكومة، فإن هذه الأبعاد الثلاثة في شخصيتها يمكن أن تشل حركتها في اتخاذ القرارات المصيرية سواء المؤدية للسلم أو للحرب. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى شبه ضياع مما يزيد الموقف المستقبلي خطورة، خصوصا أن الوضع آخذ في الخروج من حلقة السيطرة التامة. أيضاً لا يجب أن يغيب عن الذهن أن ضعف الولايات المتحدة من شأنه أن يزيد من ضعف وضياع القرار الاستراتيجي الإسرائيلي. وهذا في حد ذاته سلاح ذو حدين قد يدفع المتطرفين في إسرائيل بقيادة ليفني بتبني وممارسة النظرية القائلة إن الوقت لم يعد في مصلحة إسرائيل، وإن شن الحرب اليوم أفضل من الغد نظراً لأن العرب وحلفاءهم عرفوا طريق السلاح المتطور وباتوا خبراء في استخدام التكنولوجيا الحديثة. إن إسرائيل اليوم تعيش عقدة «مسّادة»، تلك الخرافة في التاريخ اليهودي التي يتغنون ويفتخرون بها. فعندما حُوصروا من قبل الأعداء وأسقط في يدهم ووجدوا أن لا مفر من الاستسلام أو الانتحار، فضلوا الانتحار الجماعي... تلك الخرافة اخترعها اليهود القدامى لرفع معنويات أجيالهم القادمة. غير أن التاريخ، وإن ذكر هذه الحادثة في بعض صفحاته، فإنه أظهر شكوكاً حول صدقيتها. فهل تقود شقراء إسرائيل شعبها إلى «مسّادة» أخرى؟ أشك بذلك لأن اليهودي الشجاع لم يُولد بعد.

* كاتب لبناني