Ad

إن الأزمة السياسية بين الفرقاء اللبنانيين مرشحة لمزيد من التعقيد، وقد تنتهي إلى «تسوية ما» مؤقتة، لكن الصراع سيبقى محصوراً في إطاره السياسي ولن يتعداه إلى صراع عسكري في المستقبل المنظور، لأن أي صراع عسكري يحتاج إلى فريقين متساويين ولو بحدوده الدنيا.

أما وقد آلت الأمور إلى ما آلت إليه في مؤتمر الدوحة، وتحقق الشعار العربي القديم: كأننا يا بدرُ لا رحنا ولا جينا... وبالرغم من إنكار الفشل من جميع الأطراف، واعتبار المحادثات المكثّفة التي أرهقت الأعصاب، خصوصاً أعصاب أمير قطر ووزير خارجيته، وبالتالي اعتبار هذا الفشل نصف نجاح. إلا أن واقع ما حدث أن «أكَلَة الجبنة» من الفريقين اختلفوا كما هو متوقع، ليس على طرق صيانة الأمن والاستقرار، بل على توزيع حصص هذه الجبنة وعلى نوعيتها، وحتى على منشئها أميركية كانت أم إيرانية أم سورية أم سعودية أم فرنسية. ونسي أكلة الجبنة، أو تناسوا، أن في لبنان مصانع جبنة تضاهي، من حيث الجودة والطعم، كل هذه الأصناف العالمية. وقديماً قيل: الكنيسة القريبة لا تشفي.

لكن مهما توصل إليه مؤتمر الدوحة، الذي لا أنياب له، من فشل أو نجاح، فإن الحقيقة الثابتة هي أن التنين الأسود، صاحب الرؤوس المتعددة لم يتمكن من ابتلاع لبنان، وقد لا يحقق ذلك في القريب المنظور. فالحسم العسكري السريع خلق حقائق جديدة على الأرض ليس بإمكان أحد أن يتجاهل أبعادها ومعانيها، حيث ترك فريق الموالاة عارياً إلا من ورقة التين. ولأن الطبع العربي الذي توارثناه أباً عن جد لا يعترف بالهزيمة، بل تأخذه دائماً العزّة بالإثم، فيكابر ويتكابر ويتعالى على جروحه ويرتدي لباس المنتصرين. وهذه ليست مشكلة فرد أو مجموعة بعينها، بل هي مشكلة أمة بكاملها، كانت ومازالت وستبقى طالما أنها تعيش في أحلام اليقظة وتحوّل الهزيمة إلى انتصار.

لكن هذه الصفة لا تقف حائلاً دون الاعتراف بالحقيقة، وحقيقة ما حدث في لبنان في الأسابيع الثلاثة الماضية يدفع الكثيرين إلى القناعة، بأن البلد قد يكون شهد آخر صراعاته الدموية. وبمعنى أكثر وضوحاً، فإن الأزمة السياسية مرشحة لمزيد من التعقيد، وقد تنتهي إلى «تسوية ما» مؤقتة، لكن الصراع سيبقى محصوراً في إطاره السياسي ولن يتعداه إلى صراع عسكري في المستقبل المنظور، لأن أي صراع عسكري يحتاج إلى فريقين متساويين ولو بحدوده الدنيا. والأحداث الدموية الماضية أثبتت، بما لا يقبل الشك، خروج فريق من حلبة الصراع العسكري. وعودته إلى الحلبة تستلزم الكثير من الوقت والجهد والمال. وإذا كان ذلك متوافراً، فإنه يتطلب تجنيد جيشه بحيث لا يبقى كما هي الحال اليوم، مجموعة من «جنرالات» السياسة من دون عسكر.

غير أن هذا لا يعني عدم توقع حدوث اختراقات أمنية هنا وهناك بالإمكان محاصرتها والسيطرة عليها بحيث تبقى في حدودها الضيّقـَة ولا تتحول إلى حرب أهلية شاملة كما كان يخطط «المحبون» للحرية والديمقراطية والعدالة من عرب وأجانب. فالحرب الأهلية، بعد نتائج الأحداث الدموية الأخيرة، قد ابتعدت كثيراً، ولا نقول إنها تلاشت بصورة نهائية، والدليل على ذلك هو رسم الوضع الميداني في لبنان كما هو اليوم، لا كما كان بالأمس:

- منطقة الجنوب محسوم أمرها لفريق المعارضة «حزب الله» قبل الأحداث وبعدها. ومحاولة اختراقها تـُعتبر انتحاراً عسكرياً بالرغم من وجود قوات الأمم المتحدةعلى الحدود الفاصلة مع إسرائيل ذات المهمة المحدّدة بموجب قرار مجلس الأمن. وتغيير هذه المهمة يتطلب قراراً دولياً جديداً سوف يقابله «فيتو» دولي،ولامؤشر لحدوث ذلك الآن.

- منطقة الشوف تحت زعامة وليد جنبلاط وكذلك منطقة بعبدا وعاليه جرى تحييدها ولا يمكن خرق هذا التحييد إلا بالعودة إلى اقتتال درزي درزي، وسني سني، ومسيحي مسيحي. وهذا الأمر بعيد الحدوث مهما بلغ زعماء هذه المنطقة من قوة بطش وتأثير. خصوصا أن الأحداث أظهرت نوعاً من التمرّد شبه الجماعي لأبناء هذه المنطقة على كل من ينادي بحل المشكلة بالسلاح لا بالسياسة.

- في البقاع، هناك جيوب مقاومة للمعارضة ولـ«حزب الله»، لكنها في الواقع هي نقطة في بحر ولا تشكل قلقاً للمعارضة.

- بيروت، وهي قبلة أنظار وطموح الموالاة قبل المعارضة، صارت بعد الأحداث أكثر المناطق اللبنانية أمناً وأماناً، خصوصا بعد نجاح المعارضة في تنظيف الجيوب الميليشياوية التابعة للموالاة وللسلطة معاً في وقت قياسي. يضاف إلى ذلك انتشار كثيف للجيش في كل مفاصل العاصمة الحساسة وغير الحساسة على السواء.مع العلم أن من يسيطر على بيروت، سياسياً أو عسكرياً، بإمكانه أن يسيطر على لبنان كله.

- منطقة كسروان والمتن الشمالي، وهي الجزء الأساسي في ما يدعى جبل لبنان، وذات الأكثرية المسيحية المطلقة، نجحت عملية تحييدها في الأحداث الأخيرة حيث طالب مواطنوها وبإصرار شديد بأن تكون «سويسرا ثانية» في أي صراع مسلح مقبل. ولا مجال لحدوث اختراقات أمنية كبيرة هناك.

- منطقة الشمال، وعلى وجه الخصوص العاصمة الثانية للبنان طرابلس وضواحيها وعكار وجوارها، وبالأخص قضاء بشري حيث مركز ثقل زعيم القوات اللبنانية سمير جعجع وقضاء زغرتا المرفوع اللواء لعدوه سليمان فرنجية وهما يستعدان منذ أكثر من ربع قرن لخوض معركة ثأرية فاصلة... هذه المنطقة الشمالية مازالت تجسّد مركز الزلازل الأمنية في لبنان، والتي يخشى تفاعلاتها كل صاحب رؤية وعين بصيرة. لكنها من الناحية العسكرية ساقطة نظراً لوجود خليط غريب عجيب من الفئات الأصولية المتطاحنة في ما بينها، ونظراً لاقترابها جغرافياً من سورية من ناحية، ولوجودها على الحدود في نواح أخرى. وسورية تملك حساسية بالغة تجاه الأصولية السنية المتطرفة التي أطلت برأسها في الشمال وعلى حدودها وبالقرب من «غرفة نومها الأمني». وهذا الواقع «الجيوبولتيكي» هو عامل مضاف يمنع تحويل الاختراقات الأمنية الصغيرة إلى حرب شاملة.

انطلاقاً من هذه الوقائع الجديدة على مختلف الأرض اللبنانية، يمكن القول إن ما

شهدته شوارع ومدن لبنان في ذلك «الأسبوع الأسود»، من الصعب أن يعاد في المدى المنظور. وهكذا سينعم اللبنانيون وضيوفهم بصيف حار، كعادتهم في مثل هذا الفصل. ومهما بلغت حرارة الجو الطبيعية فإنها ستكون برداً وسلاماً نتيجة زوال الخوف والقلق من القلوب قبل العقول.

وهنا اسمحوا لي أن أستعير عنوان قصة شهيرة للكاتب الأميركي الكبير «أرنست هيمنغواي» كتبها في أعقاب الحرب العالمية الأولى: «وداعاً أيها السلاح»... في لبنان.

* كاتب لبناني