Ad

خلافاً لما يردده معظم المحللين، فإن فوز «أوباما» لا يرجع إلى فشل إدارة بوش في أفغانستان والعراق أو إخفاق الحرب ضد الإرهاب، ولا يرجع -أيضاً- إلى ما يقولونه من نكاية الأميركيين في الإدارة الجمهورية بسبب الأزمة المالية، ولا حتى أيضاً يتعلق بـ«كاريزما» أوباما، بل يرجع، في تصوري، إلى رغبة الشعب الأميركي القوية في «التغيير»، لقد ملّ الأميركيون سياسة المحافظين، وسئموا حكم الحزب الجمهوري، ولم يقتنعوا بقدرة «ماكين» على التغيير، ورأوا في هذا الشاب الأسمر مستقبلاً جديداً لأميركا.

إنه هذا الشعب الذي حقق إنجازاً خارقاً للعادات والتقاليد والموروثات التاريخية المهيمنة على عقول الملايين من البشر في كل مكان، هذا الشعب الذي اخترق كل الحواجز المفرقة للبشر على أساس اللون والعرق والأصل والنسب والطبقة الاجتماعية، لقد تجاوز هذا الشعب كل تلك الانتماءات الأدنى التي تشقى بها شعوب عديدة في عالمنا، إنه الشعب الأميركي الذي صوت بأغلبيته البيضاء لفتى أسمر اسمه «باراك» من كلمة «بارك» العربية فهو «مبارك» وأبوه مسلم إفريقي اسمه «حسين»، فهو مبارك بن حسين الشهير بـ«أوباما».

نبذ هذا الشعب كل العلاقات العرقية، واختار لقيادته، ابن مهاجر كيني قادم من أسفل الهرم الاجتماعي، وفضّله على المرشح المنتمي إلى الأغلبية البيضاء ذي الحسب والأصل، اختار هذا الشعب رئيسه من الأقلية الملونة «13%» وأقبل بكثافة على الانتخابات -شباباً وكهولاً- لإيصال هذا الشاب الأسمر إلى رئاسة الدولة العظمى، أثبت هذا الشعب قدرته على التغيير فاستحق أن يقود العالم، من كان يتوقع هذا الأمر؟ من كان يصدق حدوثه؟ من كان يحلم مجرد حلم بمكانه؟ لقد خيّب هذا الإنجاز توقعات كبار كتابنا الذين قالوا إن العنصرية الأميركية- خلافاً للاستطلاعات التي رجحت فوز «أوباما»- ستستيقظ صباح يوم الانتخايات وتعطي صوتها لماكين، ولكن الحلم تحقق بأكثر مما حلم به «مارتين لوثر كنج» زعيم زنوج أميركا في الستينيات، كما عبر عنه في خطابه الشهير- أنا عندي حلم- أن يجلس صبيان: أبيض وأسود ويلعبان على تلال ولاية «جورجيا» لكن العنصرية اغتالته عام 1962، ومر 40 سنة، وتحقق ما هو أكبر من هذا الحلم، لقد وصل الرجل الأسمر إلى عقر «البيت الأبيض» الذي كان مقصوراً على الرؤساء البيض، وأصبح «أوباما» أول رئيس أسمر في تاريخ البيت الأبيض.

ما دلالات هذا الحدث الاستثنائي على المستويين الأميركي والعالمي؟

بداية فهذا الإنجاز يمثل منعطفاً تاريخياً لا بالنسبة لأميركا فحسب بل بالنسبة للعالم كله، كما أنه يحمل دلالات عديدة من أبرزها:

1- إن فوز «أوباما» ابن المهاجر الإفريقي المسلم والمنتمي إلى الأقلية الملونه على «ماكين» أحد أبطال حرب فيتنام والمنتمي إلى الأغلبية البيضاء، يمثل انتصاراً للديمقراطية الأميركية، كما يسقط كل حملات التشكيك التي دأب عليها بعض كتابنا من القوميين واليساريين والإخوان في انتقادهم للديمقراطية الأميركية، لقد دأب هؤلاء وعلى امتداد عقود زمنية على التهكم من الديمقراطية الأميركية والقول إن من يوّقع الشيكات يصنع الرئيس، في إشارة إلى دور المال والشركات الكبيرة في شراء الأصوات وفي دور الإعلام الأميركي في تزييف وعي الناخب الأميركي، اليوم نجاح «أوباما» يسقط هذه المقولات، ويثبت للعالم بأن حرية الشعب الأميركي في الاختيار واسعة ومطلقة، لا تستطيع الشركات الضخمة ولا أموالها أن تشتريها، وكما يقول الكاتب الكويتي خليل حيدر: «إن هذه الشركات والأجهزة الإعلامية والأموال لا تستطيع أن تبقي مسؤولاً واحداً في منصبه مهما كان موقعه إن خالف القوانين» هؤلاء الذين تحدثوا عن دور المال والإعلام الأميركي في تزييف الوعي السياسي يتناسون كيف حل الأميركيون إشكالية العلاقة بين المال والثروة والنفوذ والتأثير السياسي كوضع سقف للتبرعات، ويتغافلون دور الأجهزة الأميركية في محاسبة المرشحين وكشف ارتباطاتهم المالية والتنقيب في ملفاتهم الشخصية، هؤلاء لا يذكرون ما يتمتع به المجتمع الأميركي من تعددية حزبية وثقافية وإعلامية تحد من تأثيرات الإعلام على الاختيار الفردي كما يقول د. عبدالمنعم سعيد، بحيث أصبح المجتمع الأميركي الأكثر شفافية بين دول العالم، وأثبت الناخب الأميركي وخلافاً للإعلام الذي كان يحذره من اختيار «أوباما» باعتباره- خيار المخاطرة- رشداً في الاختيار، وإدراكاً سليماً للمصالح، ولم يستطع الإعلام المعاكس أن يزّيف وعيه، إن تزييف الوعي السياسي هو بعض سمات مجتمعات دول العالم الثالث.

2- وصول «أوباما» إلى الرئاسة الأميركية يمثل انتصاراً للقيم الأميركية كما وضعها الآباء المؤسسون لأميركا، ومن أبرزها قيمة أن أميركا هي أرض الفرص لتحقيق الأحلام، وهي البلد الذي تستطيع فيه أن تشغل مواهبك كما قال «فريدمان» لذلك يقول د. أحمد البغدادي: «لقد تحققت مقولة إن أميركا أرض الأحلام حقيقة لا افتراضاً» نعم في أميركا يحقق ابن المهاجر الإفريقي حلمه، ويصبح رئيساً وعندنا في دول العالم الثالث مازالت جموع عريضة من البشر لا تستطيع أن تحلم مجرد حلم بالحصول على حقوق عادلة، فضلاً عن حقوق المواطنة، لقد قال «أوباما» عشية انتخابه «إذا كان أحد لايزال يشك في أن أميركا هي بلد كل الأمور فيها ممكنة أو لايزال غير متأكد من أن حلم الآباء المؤسسين لايزال حياً، فإن ما تم إنجازه هذه الليلة هو الرد».

ما معنى فوز «أوباما»؟

إن فوزه يعني أن المواطن الكفء المجتهد بإمكانه اعتلاء قمة الهرم في الحكم بغض النظر عن أصله وفصله، كما تقول الكاتبة السعودية «أميرة كشغري» وفي تصوري إن إعجاز هذا الشعب يكمن في أن من يراجع تاريخ زنوج أميركا وكفاحهم في التحرير يدرك كيف كانت أميركا قبل 300 سنة، كانت دولة عنصرية، السود يستوردون إليها من إفريقيا لتشغيلهم عبيداً في حقول ومنازل ومصانع السادة البيض، ثم كانت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب «1860- 1864» وقرارات المحكمة العليا المتتالية والمساندة لحقوق العبيد إلى إعلان «لنكولن» تحرير العبيد عام 1865 يدرك عظمة هذا الشعب، لقد كان الشعب الأميركي، وإلى وقت قريب، لا يقبل فكرة وجود أسود في نفس الجامعة أو الباص، ولكنه تغير بسرعة وقبل برئيس أسمر، إنه شعب يملك قدرة عجيبة، هذا الشعب الذي استطاع أن يطوي هذا التاريخ القريب جداً كما يقول الكاتب السعودي «تركي الثنيان» ويحضرنا تصريح «كولن باول» صاحب نصر حرب تحرير الكويت في دفاعه عن «أوباما» وهو الجمهوري عندما قال: «ماذا لو كان «أوباما» مسلماً؟ هل هذا يعيبه؟ إنني أريد ألا يحرم أي طفل أميركي مسلم من الحلم أن يكون رئيساً لأميركا يوماً ما» ستبقى أميركا بلد الآمال الواسعة والأحلام الممكنة، وهذا هو بالتحديد، سر عظمتها وقوتها وتفوقها.

3- وأخيراً فإن فوز «أوباما» وخلافاً لما يردده معظم المحللين لا يرجع إلى ما ينسبونه إلى إدارة بوش من فشل في أفغانستان والعراق أو إخفاق في الحرب ضد الإرهاب، ولا يرجع -أيضاً- إلى ما يقولونه من نكاية الأميركيين في الإدارة الجمهورية بسبب الأزمة المالية، ولا حتى أيضاً يتعلق بـ«كاريزما» أوباما، بل يرجع -أساساً- في تصوري إلى رغبة الشعب الأميركي القوية في «التغيير»، لقد مل الأميركيون سياسة المحافظين، وسئموا حكم الحزب الجمهوري، ولم يقتنعوا بقدرة «ماكين» على التغيير، ورأوا في هذا الشاب الأسمر مستقبلاً جديداً لأميركا.

لقد كان بوش ورجاله هو الأنسب لمرحلة «11- 9) وتداعياته، وكان هو الأقدر على رد الصاع صاعين ورد الاعتبار لكبرياء أميركا الجريحة، بسبب جرأته على الإقدام، ولكن ذلك ماضٍ قد انطوى، وأميركا اليوم في مرحلة مختلفة تحتاج إلى رجل مختلف وسياسة مختلفة تطوي مخلفات «11- 9» نحو مستقبل جديد.

إنه شعب عظيم حقاً.

* كاتب قطري