الرأسمالية في ثوبها الجديد

نشر في 25-02-2009
آخر تحديث 25-02-2009 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت هل تشكل الأزمة المالية العالمية فرصة لصياغة شكل جديد من أشكال الرأسمالية يستند إلى قيم سليمة؟

يبدو أن هذا ما يتصوره الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير. ففي ندوة أقيمت في باريس في الشهر الماضي تحت عنوان «عالم جديد، ورأسمالية جديدة»، وصف ساركوزي الرأسمالية القائمة على المضاربة المالية بأنها «نظام غير أخلاقي» تسبب في «انحراف منطق الرأسمالية». ولقد زعم أن الرأسمالية لابد أن تبحث عن قيم أخلاقية جديدة وأن تتقبل دوراً أقوى من جانب الحكومات. أما بلير فقد دعا إلى نظام مالي جديد «يستند إلى القيم وليس الرغبة في تحقيق أعظم ربح ممكن في أقصر وقت».

الحقيقة أنه لمن المدهش أن نرى مدى السهولة التي تَقَبَّل بها الساسة من الأحزاب كافة- وحتى أشد المدافعين الإيديولوجيين عن السوق غير الخاضعة للتنظيم- فكرة أن الدولة لابد أن تعمل على إنقاذ البنوك وشركات التأمين حين تتعرض للمتاعب. فباستثناء قِـلة من الإيديولوجيين الملتزمين المدافعين عن المبادرة التجارية الحرة، لم يبد أحد استعداداً لخوض المجازفة المرتبطة بالسماح للبنوك الكبرى بالانهيار.

ولكن من يستطيع أن يجزم بالعواقب التي كانت لتترتب على ذلك؟ لقد أعرب كثيرون عن خشيتهم من انتشار البطالة على نطاق واسع، وحدوث موجة من عمليات الإفلاس، وطرد ملايين الأسر من مساكنها، واضطراب شبكة الأمان الاجتماعي إلى حد الانهيار، بل وربما اندلاع أعمال الشغب وانبعاث التطرف السياسي الذي ساق هتلر إلى السلطة في ألمانيا أثناء فترة الكساد في ثلاثينيات القرن العشرين.

إن اختيار إنقاذ البنوك من العواقب المالية المترتبة على الأخطاء التي ارتكبتها هذه البنوك يشير إلى تحول في القيم بعيداً عن الاعتقاد في حكمة السوق. ومن الواضح أن السوق أخطأت على نحو فاضح في التعامل مع بعض الأمور- مثل قيمة بعض الأوراق المالية. ولكن هل تسفر دورة الانحدار الاقتصادي أيضاً عن تحول أعمق في القيم التي يتبناها المستهلكون؟

ليس من قبيل المصادفة أن تُـعقَد ندوة «عالم جديد، ورأسمالية جديدة» في فرنسا، حيث ينظر بعض المنتقدين إلى الأزمة المالية العالمية باعتبارها ضرورية ومرغوبة لأنها تؤدي على وجه التحديد إلى إنتاج التغير المطلوب في القيم. وفي صحيفة «لوفيجارو» توقع القائمون على تحرير ملف يدور حول كيفية تقليص النفقات، «اندلاع ثورة في القيم»، بل وزعموا أن الناس ستقدم الأسرة قبل العمل في الأهمية. (يرى الأميركيون أن الفرنسيين، الذين يعملون لساعات أقل ويتمتعون بعطلات صيف أطول، يقدمون الأسرة على العمل في الأهمية بالفعل).

كان الفرنسيون دوماً أقل ميلاً إلى الاستدانة- فحين يستخدمون بطاقات السحب فإنهم يسحبون من أرصدة مالية يمتلكونها بالفعل، ولا يستخدمون بطاقات الائتمان. والآن ينظرون إلى الأزمة الحالية باعتبارها إثباتاً للقيمة المتمثلة في عدم إنفاق ما لا يملكه المرء من أموال.

وهذا يعني، في العديد من الحالات، الإقلال من الإنفاق على الكماليات- وهو أمر من الصعب التوفيق بينه وبين صورة فرنسا باعتبارها بلد الأزياء والعطور والشمبانيا. ولكن الإفراط بات يشكل موضة عتيقة، وهناك تقارير عن التراجع عن شراء الكماليات في كل مكان. وتقول شركة «ريتشمونت» السويسرية للكماليات الفاخرة، التي تمتلك ماركتي «كارتييه» و»مونت بلانك»، إنها تواجه أسوأ ظروف يمر بها السوق منذ تأسيس الشركة قبل عشرين عاماً. ولكن هل يُـعَد هذا بمنزلة علامة على حدوث تغير دائم في القيم، أم أن الأمر لا يتجاوز مجرد انخفاض موقت مفروض على المستهلكين بسبب خسائر الاستثمار وتنامي الشكوك وعدم اليقين بشأن مستقبل الاقتصاد؟

في خطاب تنصيبه، قال الرئيس الأميركي باراك أوباما: «لقد حان الوقت لتنحية الأمور الصبيانية جانباً، وتبني الفكرة النبيلة التي تقول إن الكل سواسية والجميع أحرار ويستحقون الفرصة الكاملة للحصول على كل ما يكفل لهم السعادة». والحقيقة أنه لأمر طيب للغاية أن تؤدي الأزمة المالية العالمية إلى استعادة الحس اللائق بما هو مهم حقاً.

ولكن هل تعمل الأزمة على تذكيرنا بأننا نغالي في شراء الكماليات بسبب المكانة التي تمنحنا إياها وليس بسبب قيمة ذاتية كامنة فيها؟ وهل تساعدنا الأزمة في إدراك أن العديد من الأمور أكثر أهمية لسعادتنا من قدرتنا على إنفاق المال على الأزياء وساعات المعصم باهظة الثمن وتناول الأطعمة في المطاعم الراقية؟ بل هل تجعلنا الأزمة، كما اقترح أوباما، أكثر إدراكاً لاحتياجات هؤلاء الذين يعيشون في فقر حقيقي وفي ظروف أسوأ كثيراً مما قد نتخيل، سواء في ظل الأزمة المالية أو قبلها؟

إن الخطورة هنا تتمثل في أن إمكانية التغير الحقيقي في القيم سوف تكون موضعاً لانتقاء هؤلاء الذين يرون التغيير باعتباره فرصة أخرى لجمع المال، كما حدث كثيراً من قبل. ويقال إن مصممة الأزياء ناتالي رايكل تخطط لعرض مجموعة «سونيا رايكل» الجديدة في شهر مارس، ليس في المنطقة المستأجرة الشاسعة، ولكن في مساحة أصغر في بوتيكها الخاص. ولقد صرحت لصحيفة «هيرالد تريبيون» الدولية قائلة: «إنها رغبة في الحميمية، والعودة إلى القيم. أننا نحتاج إلى العودة إلى النطاق الأصغر، على النحو الذي يسمح لنا بلمس مشاعر الناس. ولسوف نقول لعملائنا تعالوا إلى دارنا وشاهدوا ملابسنا وتحسسوا نسيجها».

أجل! في عالم حيث يموت عشرة ملايين طفل في كل عام لأسباب مرتبطة بالفقر يمكن تجنبه، وحيث تهدد الانبعاثات الغازية المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري العالمي بتشريد مئات الملايين من البشر، يتعين علينا أن نزور بوتيكات باريس لكي نتحسس الملابس. إذا كان الناس مهمومين حقاً بالدفاع عن القيم الأخلاقية، فلن يسارعوا على الإطلاق إلى شراء الملابس الراقية من تصميم مشاهير عالم الأزياء. ولكن تُـرى هل نستطيع أن نتخيل ناتالي رايكل، أو أهل النخبة من أثرياء فرنسا أو إيطاليا أو الولايات المتحدة، وقد تبنَّوا مثل هذه القيم؟

* بيتر سنغر | Peter Singer

back to top