لمَ الفن؟
نحنُ نرسمُ ونكتب الشعر والرواية ونؤلف الموسيقى، ونضعُ الأفلام، ونقدمها للناس، وقد نزعم أننا نقدمها لمجهولٍ لا نفكر به، لكننا في كل الحالات لا نغفل ثمارَ هذه الفاعلية، في أنفسنا وفي الناس، نترقب بين خائب منا ومُستبشر. لكن أكثر الإجابات تكاد تكون متماثلة في اتفاقها، على أن الفن ينطوي على أسرار خفية على الانسان الاعتيادي، وبالتالي يقتضي الأمر أن نرى في الفنان كياناً عالي الشأن، باعتباره من نخبة تتصف بخصائص ترتبط، بصورة ما، بقوى تفوق قوى الانسان الاعتيادي.
نظرة تتلون من فنانٍ إلى فنان، ومن تيار نقدي إلى تيار آخر، لكنها تتوافق فيما بينها باتجاه هدف واحد قد يبدو متطرفاً، هو رفع الفن الى مستوى أرفع من الإنسان نفسه. الناقد والأستاذ الأكاديمي جون كاري أصدرَ كتاباً بعنوان «أيُّ نفعٍ يُرجى من الفن؟»، ينطوي على موقفٍ نقدي مغايرٍ لهذه النظرة بشكل جذري، ولقد أثار من ردود الأفعال المتوافقة المؤيدة والمخالفة المحتجة القدر الكثير.يزعم الفن أنه ييسر لنا الاتصال بقوى خافية عن قدرات الانسان. وأنه بهذا المعنى متفوق على الطبيعة الإنسانية التي تمثلها النسبة العظمى من البشر. المؤلف يرى شبهاً بين هذا الادعاء والدعاوى الكامنة وراء موجات التطرف الديني، التي ترى في أهدافها السامية ما لا يراه عامة الناس، وكذلك في دعاوى إيديولوجية كالتي جاءت بها النازية وهتلر، الذي يرى لدى العبقرية الفنية وحدها الحق في ألا تُعنى بالكائنات الإنسانية باعتبارها أدنى قدرة عقلية وروحية. هذه الدعوى تكاد تكون واحدة لدى موجات الفن، التي تعتبر أفرادها أرستقراطيين، من الخاصة، ولا شأن لهم بمصائر البشر. المؤلف يرى أن ظاهرة تقديس الفن والفنان بدأت من منتصف القرن الثامن عشر، منذ صيغ مصطلح «علم الجمال»، ومنذ شرع الفيلسوف الألماني «كانت» في اعتبار الفن الجيد هو الذي يجد مدخلاً الى عالم الجمال والحقيقة، الواقع وراء قدرات الإدراك الحسي. عزز فكرة «كانت» هذه كلٌّ من الفيلسوف «هيغل» و«شوبنهاور». وطالبوا جميعاً بجمهور استثنائي في قدراته لاستيعاب الفن أيضاً. هذه النظرة المتعالية هيمنت على كل المرحلة الرومانتيكية والحديثة، وطالت حتى علم النفس، الذي يرى أحياناً «أن أحدنا، لكي يكون فناناً، يتطلب من دورة دمه ان تتحرك باتجاه معاكس لحركة الدورة الدموية المعتادة». ويخلُصُ المؤلف إلى معتقده بأن «العملَ الفني هو كلُّ شيء يستطيع الإنسان أن يتعامل معه كعمل فني، حتى لو كان هذا الاعتبار يخصه وحده».أما بشأن علاقة الفن بالأخلاق، وأن الفنَ يُعمّقُ لدى الإنسان محبةَ الغيْر فأمرٌ يرى المؤلفُ أنه فقد مصداقيّتَه في سنوات الحرب الثانية، على يد زعماءِ النازية التي كانت تُبيدُ البشرَ بأفران الغاز، مع مواصلة عشقها للموسيقى الكلاسيكية.إن تأثيرَ الفن وخلقَه الحساسيةَ العاليةَ التهذيب لا يراه المؤلف إلا قاعدة مقلوبة. لأنه يرى أن قراء الشعر، مثلاً، الذين تميزوا بهذا التهذيب والحساسية لم يكسبوا الخصيصة من القراءة، بل أن هذه الخصيصة التي لديهم هي التي قادتهم إلى قراءة الشعر، بالدرجة الأولى. في القسم الثاني من الكتاب، ينصرف المؤلف الى فن الأدب، ويفصل بينه وبين بقية الفنون، إذ يعتبره أرفعَ هذه الفنون بسبب قدرته وحده على النقد الذاتي، وعلى التوجه العقلاني والأخلاقي، إن التوجهَ ضدّ مظاهرِ التيهِ والإحساسِ بالعظمة والميلِ إلى التنميقِ شائعٌ في النقد الأدبي، منذ وجد الأدب. ولقد اتضح هذا أكثر في العصر الحديث.