اليورو في العاشرة من عمره

نشر في 26-01-2009
آخر تحديث 26-01-2009 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت إن بداية عام 2009 سوف تعلق طويلاً في ذاكرة الناس بسبب الأخبار الاقتصادية الرهيبة والسياسات الاقتصادية المثيرة للجدال في بلدان العالم كافة تقريباً. وتصادف بداية هذا العام أيضاً الذكرى السنوية العاشرة لميلاد اليورو، العملة المشتركة التي ساعدت في ربط مصائر مئات الملايين من الأوروبيين فيما يتصل بشؤونهم الاقتصادية والمالية. والحقيقة أن الأمر يستحق أن نتوقف قليلاً للاحتفال بهذا الحدث الرائع، والأثر الذي خلفه وجود اليورو على الأزمة العالمية الحالية.

بدأ العمل باليورو في شهر يناير 1999 في استجابة لمجموعة معقدة من الأسباب الاقتصادية والمالية والسياسية والتاريخية. وجاء بمنزلة التتويج للخطة التي وضعها العديد من زعماء ما بعد الحرب العالمية الثانية، مدفوعين بالذكريات الأليمة التي تخلفت عن الحربين العالميتين المروعتين اللتين نشأتا في أوروبا واستنزفتاها أثناء النصف الأول من القرن العشرين، إلى صياغة روابط اقتصادية وسياسية وثيقة في أوروبا.

قبل عشرة أعوام كانت هناك مخاوف حقيقية بشأن إطلاق العملة الجديدة. هل يتخلى الناس عن عملاتهم الوطنية القديمة ويستخدمون اليورو الجديد؟ وهل يتمكن اليورو من الاحتفاظ بقيمته في مقابل الدولار؟ (كان سعر اليورو حين بدأ العمل به 1.18 دولار، ثم هبط إلى ما يقرب من 0.80 من الدولار في وقت مبكر بعد إطلاقه، ثم عاود الارتفاع ليصل إلى ذروته بما يقرب من 1.60 دولار أثناء الفترة 2007-2008، قبل أن يتراجع إلى نحو 1.30 دولار).

حين تحل عملة واحدة محل مجموعة من العملات المستقلة، كما حدث حين حل اليورو محل المارك الألماني والفرنك الفرنسي والليرة الإيطالية والبيزيتا الإسبانية وغيرها من العملات، فإن هذا يترتب عليه فوائد أساسية: كانخفاض تكاليف المعاملات المالية وزيادة الشفافية.

نظراً لتحرر اليورو من التكاليف والمنغصات المترتبة على التحويل المستمر للعملات، ومن الشكوك الناشئة عن التقلبات بين أسعار العملات المختلفة، فلا شك أنه كان بمنزلة نعمة لمنطقة العملة الموحدة. كما أصبحت عملية تحديد أسعار السلع والعمالة في أنحاء منطقة العملة الموحدة المختلفة أكثر شفافية، بعد أن كانت تعاني فيما سبق اختلاف أسعار الصرف. على سبيل المثال، بات من السهل أن نقارن بين تكلفة دقيقة الهاتف النقال في إيطاليا ونظيراتها في ألمانيا وفرنسا وغيرها.

وهذه الفائدة المزدوجة تعمل على إكمال المزايا الكبيرة التي تتمتع بها مناطق التجارة الحرة. وحتى الآن لم تدرك أوروبا الإمكانات الكاملة لهذه الفوائد، ولكنها تسعى إلى مكافحة عمليات الاندماج الطبيعية عبر الحدود، وفشل أو استبدال الشركات الوطنية البارزة بمنافسين أفضل من بلدان أخرى.

زعم العديد من أنصار اليورو أنه سيتطور سريعاً ليتحول إلى عملة احتياط بديلة إلى جانب الدولار، بل وربما يحل محله، في الأسواق العالمية. ولكن حتى الآن مازال القسم الأعظم من التجارة العالمية يتم بالدولار، ولكن اليورو بدأ في البروز تدريجياً باعتباره بديلاً عملياً- عملة قوية تدعمها المصداقية التي نالها البنك المركزي الأوروبي بالجهد والعرق فيما يتصل بالتعامل مع التضخم.

لماذا إذن لا تسارع الدول كلها إلى الانضمام إلى مناطق عملات موحدة، أو لماذا لا ننشئ عملة عالمية موحدة، كما اقترح روبرت مونديل الحائز على جائزة «نوبل»؟

من بين الأسباب الواضحة أن إنشاء مناطق العملات الموحدة ينطوي أيضاً على بعض المساوئ. فلنفترض على سبيل المثال أن جنوب أوروبا كان أشد تأثراً بالركود الحالي من شمال أوروبا. من المعروف أن لدى اقتصاد أي دولة سبيلين محتملين للتأقلم مع الدورات الاقتصادية الهابطة وتخفيفها. الأول، أن قيمة عملة هذه الدولة ستنخفض بطبيعة الحال، الأمر الذي يجعل صادراتها أكثر قدرة على التنافس ووارداتها أكثر تكلفة. وهذا من شأنه أن يخفف جزئياً من شدة الانحدار الاقتصادي. وبدلاً من ذلك فمن الممكن أن تهاجر العمالة من جنوب أوروبا حيث معدلات البطالة المرتفعة إلى شمال أوروبا حيث معدلات البطالة أقل ارتفاعاً.

وتشكل الولايات المتحدة مثالاً مهماً لانتقال العمالة على هذا النحو. ففي أوائل ثمانينيات القرن العشرين، حين بلغت معدلات البطالة في الولايات المتحدة 11% تقريباً، انتقل العديد من العمال من المنطقة التي أطلق عليها «حزام الصدأ»- المنطقة الصناعية الأشد تضرراً في الغرب الأوسط الأعلى- إلى مناطق أخرى من البلاد. وفي مطلع التسعينيات، حين كان الركود في كاليفورنيا أشد وطأة، لجأ الناس إلى البحث عن الوظائف في بلدان مجاورة. وعلى هذا فقد عملت هجرة العمالة كصمام أمان ضد تفاقم البطالة.

من الثابت تاريخياً أن هجرة العمالة في أوروبا تحدث على نطاق أضيق كثيراً. فالعديد من الناس لا يرغب في هجر جذوره العميقة في مناطقه الأصلية؛ وآخرون لا يرغبون في الانتقال إلى بلد آخر، حيث قد يشكل حاجز اللغة والثقافة عائقاً بالنسبة لهم. وفي ظل الحركة المحدودة للعمالة، فضلاً عن تسبب اليورو في إزالة الوسيلة الأخرى لامتصاص الصدمات (والتي تتمثل في تعديلات أسعار الصرف)، فستتحمل البلدان الأشد تضرراً بالانحدار الاقتصادي القدر الأعظم من الضغوط. ولقد دفع هذا بعض الاقتصاديين إلى التساؤل عما إذا كانت منطقة اليورو تشكل فكرة جيدة من الأساس، بل لقد توقع هؤلاء الاقتصاديين انهيار منطقة اليورو حين تواجه اختباراً من حالة من الركود الشديد المتفاوت في حدته بين بلد وأخرى.

إن انخفاض معدلات التضخم، وغياب المخاطر المرتبطة بالعملة، وانخفاض تكاليف المعاملات المالية، وتزايد الشفافية، كل ذلك كان من بين الأسباب التي أدت إلى نجاح اليورو. ولكن انخفاض المرونة في الاستجابة للصدمات الاقتصادية سيشكل اختباراً قاسياً لليورو بلا أدنى شك. وفي الوقت الحاضر أصبح الضوء مسلطاً على الاستجابات المالية المتباينة، بل والمتنافرة، التي تتبناها الآن حكومات الاتحاد الأوروبي.

وهذا يثير السؤال القديم حول ما إذا كان الاتحاد النقدي قادراً على العمل من دون اتحاد مالي، أو على الأقل من دون قواعد مالية أشد قوة وأكثر إلزاماً (من المعروف أن التزامات معاهدة «ماستريخت» فيما يتصل بسقف العجز يسهل انتهاكها إلى حد كبير). وإلى جانب ذلك يتعين علينا أن نضيف تنظيمات مالية منسقة وسياسات خاصة بخطط الإنقاذ، بينما تتدفق الودائع بسرعة عبر الحدود في استجابة للضمانات الوطنية والتأمين في منطقة اليورو.

تُرى هل يكون العقد الثاني من عمر اليورو على القدر نفسه من النجاح الذي صادفه عقده الأول؟ إن الأزمة المالية والركود المتزايد في حدته من الأسباب التي أدت إلى خلق العديد من التحديات. فالبلدان الأقل قدرة على المنافسة الاقتصادية في منطقة اليورو مقيَّدة بسياسة نقدية (أسعار الفائدة) يحددها البنك المركزي الأوروبي، ولكنها تلاحق توجهات متنوعة فيما يتصل بإنقاذ البنوك والحوافز المالية. فاليونان وإيطاليا بصورة خاصة، تواجهان مشاكل ديون خطيرة في خِـضَم المخاوف التي تحيط بالسوق المالية إزاء احتمالات العجز عن السداد أو الانسحاب من منطقة اليورو. كما بلغت الفجوة بين عائدات السندات الألمانية وعائدات السندات الإيطالية واليونانية الآن مستويات غير مسبوقة. وتضاعف سعر القيمة المبدئية للتأمين إلى ثلاثة أمثاله.

ولكن البلدان الأضعف اقتصاداً تنعم بمصداقية التضخم التي يتمتع بها البنك الأوروبي المركزي، فضلاً عن الحماية من التقلبات الشديدة في أسعار الصرف. والحقيقة أن تجنب اندلاع منافسة في تخفيض قيمة العملات المختلفة يشكل نعمة أكثر منه نقمة. وفي عموم الأمر فإن هذا من شأنه أن يجعل عضوية منطقة اليورو أشد جاذبية في نظر البلدان غير الأعضاء مثل الدانمارك وبولندا.

* مايكل ج. بوسكين | Michael J. Boskin ، يعمل حالياً أستاذاً لعلوم الاقتصاد بجامعة ستانفورد، وهو كبير زملاء معهد «هووفر»، وكان رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس جورج بوش الأب.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top