يقول وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر إن الانسحاب ليس هدفاً إنما وسيلة لعالم أكثر سلاماً وأملاً، ولكنه لا يحبذ وضع جدول زمني للانسحاب أو تحديد موعد نهائي له، ولعله متفائل إزاء الفرصة العظيمة للرئيس القادم لتحقيق الاستقرار في العراق ووضع أساس لتحوّل حاسم في مسار الحرب لاسيما ضد تنظيم «القاعدة» والمتطرفين على حسب تعبيره، ولا ينسى ذكر سلام الشرق الأوسط، لكنه بخبرته الدبلوماسية والأمنية العريقة يضع ذلك في ميزان الأمر الواقع، أي بالتقدم الذي سيتم إحرازه على الأرض قبل وضع استراتيجية للرئيس المقبل.
وحسب كيسنجر لا ينبغي أن يظهر الوجود الأميركي في العراق (الاحتلال) على أنه لا نهاية له، لأن هذا لن يؤيده أي من الرأي العام المحلي العراقي والأميركي، وذلك في إشارة للمفاوضات الجارية بين حكومتي رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، لاسيما بشأن وضع القوات الأميركية في العراق واقتراب موعد إجراء انتخابات المحافظات، الأمر الذي لا ينبغي أن يظهر وكأن الوجود العسكري الأميركي من دون سقف زمني، بحيث يبدو وكأنه احتلال دائم، وهو ما كان قد لوّح به رئيس الوزراء العراقي لدى زيارة مرشح الرئاسة أوباما إلى العراق.ويرد كيسنجر على المطالبين بتحديد جدول زمني وموعد نهائي للانسحاب، لكنه لا يهمل آراء بعض المؤيدين للانسحاب، بحيث يقدمها كجزء من حل كامل بأن يكون الانسحاب مرهوناً ببقاء القوة بشروط (غير متوافرة في الوقت الحاضر)، ولهذا يتساءل: لماذا نحدد الموعد النهائي؟ ولكن الأمر الذي ينبغي التركيز عليه هو الحوار حول شروط الانسحاب وليس الموعد النهائي.تنطلق تبريرات هنري كيسنجر من أن الموعد النهائي للانسحاب سيقوّض الجهود التصالحية في المنطقة، ويشجع الجماعات المتطرفة على العمل فوق السطح، بحيث يصبح الوضع ملائماً لها للعودة مجدداً مع رحيل القوات الأميركية، إذ سيصبح لدى تنظيم «القاعدة» موعد نهائي يخطط من أجله لعودة عملياته على مستوى واسع. ويذهب أكثر من ذلك عندما يعتبر أن مجرد الاعلان النهائي للانسحاب، سيؤدي إلى تعزيز نفوذ إيران ومؤيديها من الجماعات الشيعية خلال فترة من الوقت بعد الانسحاب، ولذلك فإن وضع جدول للانسحاب وتحديد موعد نهائي ثابت، سيبدد الجهود التي تحتاجها المرحلة الدبلوماسية الأخيرة، ويزيد من حدة التناقضات الموجودة أصلاً لاسيما الموقف من الانسحاب، ناهيكم عن الصعوبات العملية التي تكتنفه والمتأصلة في الانسحاب المقترح مع الصعوبات.أما الجهود الدبلوماسية على المستوى الدولي فيجملها بمبادرات إقليمية لتحقيق السلام والاستقرار، منها الوساطة التركية في المفاوضات السورية-الإسرئيلية ونجاح الوساطة القطرية في المسألة اللبنانية، الأمر الذي يحتاج إلى قوات قتالية كافية في العراق حتى لو تم الانسحاب الجزئي (المحدود) بعد حين، لحماية السفارة الأميركية، ولمحاربة تنظيم «القاعدة» الذي سيعود للدفاع عن العراق ضد التدخلات الخارجية، وهكذا سيكون الوجود العسكري الأميركي ضرورياً، وليس وجود قوات مساعدة أو مساندة أو سحب بعض القوات لإرسالها إلى أفغانستان، إذ سيكون ذلك مغامرة وتبديداً للجهود المبذولة في العراق، من أجل إرسال فرقتين أو ثلاث إلى أفغانستان.يبني كيسنجر وجهة نظره على عدد من المعطيات، لكنه يتجاهل وجود معطيات أخرى أكثر أهمية، ليتوصل إلى استنتاج مهم بحاجة إلى وقفة جدية، فيحدد تراجع العنف في العراق، لاسيما بعد إنشاء «جماعة الصحوات»، وهذا أدى إلى تخفيف العنف في الوسط السني على حد تعبيره، وقلّص من وجود تنظيم «القاعدة»، ناهيكم عن أن هذا الوسط أقلع عن فكرة استعادة دوره، ويضيف أن الإقليم الكردي طوّر من دفاعاته الخاصة، والنفوذ الشيعي ولا سيما في الحكومة، حسم العديد من المعارك لاسيما مع بعض المتمردين والميليشيات الشيعية (يقصد صولة الفرسان في البصرة ومن ثم حملة التمشيط في العمارة ومدينة الثورة «الصدر» في بغداد ومناطق أخرى)، وحسب وجهة نظره فإن هذه التطورات تساعد في تحقيق المصالحة الوطنية المنشودة بمقتضى الضرورة والإجراءات العسكرية والتوازن السياسي، وكلما تضاءلت الحاجة إلى تعامل القوات الأميركية مع قوات كبيرة من الجماعات المسلحة، أمكن تركيز الجهود على مساعدة الحكومة العراقية للوقوف ضد ضغوط دول الجوار، كما أمكن أن تساعد انتخابات المحافظات التي ينص عليها الدستور من تشكيل مؤسسات عراقية جديدة.ولعل انفجار الصراع بين الكتل السياسية داخل البرلمان العراقي بشأن قانون المحافظات ومن ثم اندلاع موجة جديدة من العنف والتفجيرات والتباعد إلى حل بين الأطراف والقوى السياسية داخل العملية السياسية وخارجها بشأن كركوك، لاسيما مطالبة مجلس محافظة كركوك بضمها إلى كردستان، ومواقف القوى والجماعات الأخرى، لا سيما العرب والتركمان من سكان المحافظة الرافض لذلك، وبقاء قانون النفط والغاز على الرف إلى أن يبدو ما ذهب اليه كيسنجر خصوصاً الوضع على الأرض.يضاف إلى ذلك إذا كان تصويت البرلمان العراقي لإمرار قانون المحافظات الذي رفضته الكتلة الكردية ما لم يتضمن إجراء الانتخابات في كركوك وحسم أمرها حسب المادة 140 من الدستور، التي تقرر تأجيلها، قد فجر هذا القدر من التجاذبات والاختلافات ودفع موجة العنف ومناسيبه إلى الارتفاع لاسيما في كركوك، فإن مناقشة أو عرض مشروع المعاهدة أو مذكرة التفاهم على البرلمان سيؤدي إلى انشقاق أكبر، خصوصاً أن الشارع العراقي بدأ يتلمس بعد خمس سنوات من الاحتلال وجودا أميركيا سيتم تنظيمه في تعاقد، ليتحول الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي، خصوصاً بعدم تحديد جدول زمني لإنهاء الاحتلال، وهو الأمر الذي يفسر تصريحات المالكي ومساعديه من أركان الحكومة العراقية، بعدم التوقيع ما لم يتم تحديد جدول زمني للانسحاب، ثم سكوتهم عن ذلك.إن تفاؤل كيسنجر لا يأخذ بنظر الاعتبار هذه الحقائق، فهو مثل الرئيس الأميركي جورج بوش أو المرشح الجديد ماكين من الحزب الجمهوري، يضع النجاحات المتحققة التي لا يستطيع أحد إنكارها، على الرغم من أنها محدودة وغير حاسمة، في إطار وطني سياسي، الأمر الذي يحتاج إلى جهود مضنية وحلول سياسية واقعية وتنقية الوضع السياسي وتحديد جدول زمني لإنهاء الاحتلال، وإعادة النظر بعدد من القوانين والأنظمة التي تم اعتمادها منذ الاحتلال حتى الآن، بما يخل بالسيادة الوطنية ويرتهن العراق لمصالح قوى خارجية.وإذا كانت فكرة المؤتمر الدولي التي يطرحها كيسنجر جديرة بالمناقشة، باعتبارها بديلاً أو استكمالاً لما هو حاصل، كإطار دبلوماسي يتم فيه التوصل إلى تسوية حقيقية، فالأمر لا بدّ له من خطوات جريئة على هذا الصعيد، ولعل ذلك يذكّر بمؤتمر وزراء خارجية دول جوار العراق من ضمنها إيران وسورية ومصر والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، لكنه يستدرك فيما إذا كانت تلك التطورات دائمة ليتم انعقاد مثل هذا المؤتمر بما يساعد في تقديم ضمانات مستقبلية دولية للعراق.وكانت خطة بيكر-هاملتون قد اقترحت آليات، كجزء من إطار حل شامل من ضمنه إشراك دول الجوار مع تحديد إطار زمني للانسحاب، لكن الرئيس بوش وضعها على الرف باستثناء عقد المؤتمر! * باحث ومفكر عربي
مقالات
كيسنجر وموعد الانسحاب من العراق!
17-10-2008