أجدادنا قبل الإسلام لسذاجتهم وجهلهم، كانوا يعبدون الأصنام، ويقدمون لها القرابين لترضى عنهم، وتوسِّع لهم في رزقهم، وتنصرهم على الأعداء، وقد كان الحصول على «إله» جيد أمر سهل وغير مكلف في تلك الأيام، فما عليك، كعبد مخلص تقي ورع، إلا اختيار الحجر المناسب لـ«إلهك»، والشكل الذي تحب، والمقاس الذي تريد، فينحته النحّات نحتاً فنياً دقيقاً يليق بـ«إله» محترم، وقد يتفنن في عمله ويبدع أكثر إن وعدته بإكرامية مجزية على حسن صناعته، وما هي إلا ساعات، ويصبح «إلهك» جاهزا للعمل، و«على سنجة عشرة»، وتستطيع أن تباشر طقوسك فورا، فتخر له ساجدا ترجو عفوه ورضاه، متوسِّلا إياه أن يجنبك غضبه، ويشملك بعطفه وعفوه، وقد تتحمَّس قليلا فتذبح أحد أبنائك أو أم الأبناء قربانا له، ليرضى عنك ويباركك ويغفر لك!.

Ad

«جهل، وهبل، وكلام فاضي»، بمقاييسنا الحالية، ولو فعل جار لك اليوم أمرا كهذا، فلن تتردد بالاتصال بمستشفى المجانين فورا، فلا مكان لشخص كهذا في عالمنا هذه الأيام، ولكن في ذلك الزمان، لم يكن أعقل الناس وأحكمهم ليخجل من السجود لصنم، ولم يكن أحد ليعيب عليه ذلك، بل سيُنعت بالجنون مَن يسخر من هذه الشعائر المقدسة، وربما يُقتل لتجاوزه الحدود، ولخروجه عن ثوابت الأمة، ولأنه أتى بظاهرة سلبية دخيلة على المجتمع!

لعل قائلاً منكم يقول: وما لنا نحن وعبادة الأصنام، وكل هذا الهراء، لقد مات القوم وأصنامهم الغبية منذ قرون، ولم يعد أحد يعبدها، أو يهتم بذكرها.

اعتراض معقول، ومقبول، لكن، لنكن أكثر صراحة مع أنفسنا، هل توقف الناس حقا عن عبادة الأصنام، ولم يعد لها وجود في عالمنا؟

الحقيقة أنها لم تمت أبدا، ومازالت تعيش بيننا كـ«آلهة»، تُعبد، ويُقدَّم لها القرابين، ويموت في سبيلها الناس فرحين راضين، لكن أصنامنا اليوم، تختلف عن أصنام أجدادنا الأولين، فأصنامهم أحجار لا تنطق، أما أصنامنا، فأشكال متعددة متنوعة، تملأ السمع والبصر، و«تعشعش» في العقول، وتسيطر على الأفكار، والأهواء، والرغبات، وقد اعتدنا طاعتها، وآمنا ببركتها، وبقينا أوفياء ومخلصين لها على مر الأيام والسنين!.

قلت، إنها أصنام متعددة ومتنوعة، ليس بالضرورة أن تكون حجرا، فقد يكون الصنم بشرا، من لحم ودم، كالطغاة الذين تملأ صورهم الجدران، وتتوسَّط تماثيلهم الميادين، وتدعو لهم الشعوب بطول العمر، وطول البقاء، وتهتف لهم بحماس «بالروح بالدم نفديك يا...»، وتخشاهم أكثر مما تخشى الله، وتقدم لهم آيات الطاعة والولاء والإخلاص، والنفاق، من أصغر إلى أعلى مستوى!.

وقد يكون الصنم زعيما دينيا، يسيطر على عقولنا، ويسفِّه آراءنا، ويتحكم في اختياراتنا، ويقودنا كالقطيع، فلا نرى إلا ما يرى، ولا نختار إلا ما يختار، إن قال عن شيء هذا صواب، فهو الصواب، وإن قال عن شئ هذا خطأ، فهو الخطأ، من دون نقاش أو جدال، فزعيمنا لا يخطئ أبدا، وهو أفهم الناس بالدين وبمعاني الآيات وأحكام الشريعة، ونحن، أتباعه، وحدنا الفرقة الناجية، وبقية البشر على ضلالة وفي النار خالدين مخلَّدين، وهو دائما يختار سعيد الحظ الذي يذهب إلى الجنة قبل الجميع، حين يربط شيخنا بيديه الطاهرتين خصر المجاهد بحزام ناسف، آمراً إياه بأن يفجِّر نفسه في أي جمع من الناس، ليذهب إلى الجنة في لحظات، ولا تقلقوا على القتلى، لأن الله سيبعثهم على نياتهم!.

وقد يكون الصنم حزبا سياسيا، نؤمن به، وبمبادئه، وأفكاره، وقياداته، حتى يصيبنا الهوس، فنعمى عن رؤية الحقيقة، ونراه الحزب الناصع البياض، وكل أتباعه، صغيرهم وكبيرهم، وحدهم الوطنيون والمخلصون، وبقية الأحزاب ليست إلا أوكاراً للشياطين والخونة والعملاء الجبناء، وكل مَن يؤيدهم أو يروِّج لمبادئهم، إما ساذج مغرر به، وإما خبيث لئيم لعين!.

وقد يكون الصنم دينارا، يُفني المرء حياته في عبادته، وجمعه، وكنزه، حتى إن امتلك ملايين الدنانير، فلن يمنعه ذلك من أن يتوقف عن الزحف وراء الدينار، حتى إن كان على حساب عامل فقير وبائس، وحتى إن كان مالا عاما للدولة، بل حتى وإن كان سببا لقطيعة بينه وبين إخوانه من دمه ولحمه!.

قد يكون الصنم نظرية سياسية نؤمن بها ونكفر بكل ما سواها، أو معتقداً دينيا نتعصب له ونحارب كل مَن لا يؤمن به، قد يكون فكرة، قد يكون رغبة، قد يكون عادة وتقليدا، أو أي شيء آخر، ولأن الصنم «إله»، فهو يحب السيطرة على عُبَّاده، ويكره أن يكون له شريك، وقد اختار أن يستقر في عقولنا المتحجرة، وأن يملأها بالجهل، والتعصب الحزبي، والطائفي، والعرقي، وأن يبصق في وجه أي دعوة إلى التجديد والإصلاح، ولو أرخينا السمع قليلا، لسمعنا قهقهاته الساخرة تتردد في جدران جماجمنا، الأصنام لم تمت بعد أيها السيدات والسادة، ففي رأس كل منا يعيش صنم، مختبئ بين تلافيف المخ، أرجوكم، ابحثوا عنه، واقضوا عليه، ففي القضاء عليه راحة لكم، ولنا وللجميع!.