Ad

دول الخليج قد تكون معنية، أكثر من غيرها، بتجسيد علاقات استراتيجية بعيدة المدى مع العراق وفق منظور الإرادة الحقيقية في بناء إقليم مستقر أمنياً وسياسياً، وتدشين متطلبات التكامل الاقتصادي وحسن استثمار الموارد البشرية العراقية من ناحية، في مقابل الموارد المالية الضخمة لدول مجلس التعاون من ناحية ثانية.

شهدت العلاقات الخليجية- العراقية انفراجاً مهماً وبشكل دراماتيكي وسريع، تُوّج فجأة بتسمية سفراء بالجملة إلى بغداد، وذلك في إشارة واضحة إلى بدء التطبيع الدبلوماسي الكامل مع حكومة ما بعد النظام الصدامي.

وبغض النظر عن حجم الضغوطات الأميركية التي مورست على الدول العربية عموماً، ودول مجلس التعاون على وجه الخصوص، خلال الفترة الأخيرة لعودة هذه العلاقات، ولاسيما بعد تورطها في المستنقع العراقي أمنياً وعسكرياً وسياسياً، وعلى الرغم من الدور العربي الذي يعد الأسوأ على الإطلاق في التعاطي مع الشأن العراقي على مدى السنوات الخمس الماضية، تبقى هذه الخطوة في غاية الأهمية والنجاح، إذا ما رُسمت في إطارها الصحيح، وتُرجمت بالشكل المطلوب على أرض الواقع.

فطوال نصف عقد من الزمن تُرك الشعب العراقي، الذي كان ينزف أصلاً لمدة ثلاثين سنة من جور الحكم الدكتاتوري، ليواجه بمفرده أبشع صور الإرهاب والقتل والتشريد والفساد بأنواعه كلها، وكان كثير من الدول العربية يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في إذكاء هذه النيران، فدخل إلى العراق ليس من البوابة الرسمية، ولكن عن طريق الاستخبارات وجموع المرتزقة الإرهابية والسلاح والثقافة العنصرية والمذهبية والتجارة المشبوهة، ولم يسلم العراقيون من استباحة أرضهم وخزائن ثرواتهم، بل وُضعوا في أكثر من مناسبة على شفا الاقتتال الداخلي والحرب الطائفية.

وكانت الدول العربية قبل غيرها، مع الأسف الشديد، تراهن على فشل التجربة السياسية الجديدة وتقويض البناء الديمقراطي والمؤسسات الدستورية وسيادة الشعب في تقرير مصيره، ولم تعجب بعضهم التركيبة السكانية المتنوعة في العراق، ومراكز الثقل فيه، فضُربت العملية الانتخابية تلو الأخرى وشُكك في نزاهتها ورُفضت نتائجها رغم أن الأرقام لم تتغير في كل مرة لسبب بسيط، وهو الواقع العراقي الجديد! كما أُربكت العملية السياسية من خلال انسحاب بعض الأطراف من مراكز القرار ومن الحكومة والبرلمان وبتحريض عربي أحياناً، ولكنها اضطرت إلى العودة ليقينها بأن هذه الأساليب لم تعد مجدية والمسيرة سوف تتقدم ولو بثمن باهظ يدفعه العراقيون جميعاً.

وأمام «خربة» كبيرة وثقيلة في حجمها وخطيرة في تبعاتها، قوامها أكثر من مليون قتيل وأضعافهم من الجرحى والمهجرين في الداخل والخارج وعشرات المليارات من الأموال المبددة والدمار الهائل الذي أصاب القرى والمحافظات والمدن العراقية الصغيرة والكبيرة، وأمام المأزق الأميركي في تحول حسابات الربح والخسارة إلى غير مصلحتها من جهة أخرى، وأمام الواقع الجديد الذي لم تستطع القوى الإقليمية منع أو تغيير قيامه من جهة ثالثة، كان لزاماً على الجميع التعامل مع العراق كما هو بمعطياته ومعادلاته الراهنة دونما تجشم عناء النظر إلى الماضي أو الرهان مرة أخرى على حسابات خاسرة قادمة.

ودول الخليج قد تكون معنية أكثر من غيرها بتجسيد علاقات استراتيجية بعيدة المدى مع العراق وفق منظور الإرادة الحقيقية في بناء إقليم مستقر أمنياً وسياسياً وتدشين متطلبات التكامل الاقتصادي وحسن استثمار الموارد البشرية العراقية من ناحية، في مقابل الموارد المالية الضخمة لدول مجلس التعاون من ناحية ثانية.

وهذا هو التحدي الأهم أمام السفراء الخليجيين الجدد في بغداد الذين نتمنى لهم النجاح والتوفيق في إعداد مثل هذا التصور التفاؤلي كباكورة عمل دبلوماسي وسياسي وتاريخي وإنساني في إعادة أعمار العراق والخليج معاً، وحتى لا تكون عودة العلاقات مصداقاً للمثل الشهير: «بعد خراب البصرة»!