في مقالي بهذه الزاوية يوم الاثنين الماضي بشأن مذكرة لويس مورينو أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة الإبادة الجماعية والجرائم الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتُكبت في دارفور، قلت إن الاختصاص الأصيل لمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم ينعقد للقضاء الوطني في الدولة، ولا ينعقد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في هذه الجرائم إلا كقضاء احتياطي، وفقا لما نص عليه نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في ديباجته وفي نصوصه.
- القضاء مظهر لسيادة الدولة ولعل الدول التي وقّعت على اتفاقية روما بالنظام الاساسي للمحكمة الجنائية، قد بالغت من هذه الناحية حفاظا على سيادتها، ذلك أن جوهر هذه السيادة هو استئثار الحكم في الدولة بكل مظاهر السلطة، من سن التشريعات التي تحدد قواعد السلوك الملزمة للافراد، والتدخل لتنفيذ هذه القواعد وضمان احترامها، وقضاء وطني يوقع العقوبات على من يخالفها، من دون خضوع لجهة خارجية، سواء باشرت اختصاصاتها من هذه الناحية على مواطنيها، أياً كان مكان إقامتهم، أو على غيرهم من الأشخاص الذين يقيمون على أراضيها، ومن هنا كان مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، إحدى ركائز هذه السيادة، وأصبح التدخل المباشر أو غير المباشر في الشؤون الداخلية للدول من جانب دولة أو أكثر سواء كان مصحوبا باستعمال القوة أم من دونها، لا يتفق مع ميثاق الأمم المتحدة الذي نصت المادة الثانية منه في فقرتها السابعة، على أنه «ليس في هذا الميثاق ما يسوِّغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما».- القضاء الدولي قيدٌ على سيادة الدولة لهذا كانت سيادة الدول عائقا دائما دون وجود قضاء دولي ملزم للدول التي تكون طرفا في الاتفاقية الدولية التي تنشئ هذا القضاء، وهو ما أكدته محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر في «قضية كورفو» في 19/4/1949، الذي قررت فيه أن تقييد سيادة الدولة لا يفترض ولابد أن يكون النص صريحا حتى يمكن أن يقضي القاضي الدولي بأن الدولة قد رغبت في تقييد سيادتها.- التصديق على المعاهدة شرطٌ لنفاذها ولهذا تراجع كثير من الدول عن التصديق على اتفاقية روما بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، بعد أن وقع عليها في عام 1998 ولم تدخل الاتفاقية حيز النفاذ إلا في 1/7/2002، بعد تصديق 60 دولة عليها، ومن المعلوم أن هذه الاتفاقية لا تلزم من أطرافها سوى الدول التي صدّقت عليها، وهو التصديق الذي لا يتم إلا بموافقة السلطات الدستورية في كل دولة. وعلى سبيل المثال، فإن دستور الكويت يتطلب لنفاذ مثل هذه الاتفاقية، بعد توقيع وزير العدل عليها ممثلا لدولة الكويت، صدور قانون بها فيما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة (70)، من أن المعاهدات التي تتضمن تعديلا لقوانين الكويت يجب لنفاذها أن تصدر بقانون. ومن الدول التي لم تصدِّق عليها بعد توقيعها عليه؛ السودان ومصر وسورية واليمن والمغرب والجزائر والكويت والإمارات العربية المتحدة والبحرين وسلطنة عمان. ولم تصدق عليها من الدول العربية سوى ثلاث دول هي الأردن وجيبوتي وجزر القمر. - سحب أميركا وإسرائيل توقيعيهما على اتفاقية روما وقد بالغت بعض الدول في التراجع عن هذه الاتفاقية، وهي الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، فلم تكتف ِبعدم التصديق عليها، بل سارعت كلا الدولتين إلى سحب توقيعيهما على هذه الاتفاقية، بعد أن دخلت حيز النفاذ في 1/7/2002. وقد أعربت الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل عن هذا الانسحاب من اتفاقية روما، من خلال رسالتين تم توجيههما إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 28/8/2002.- الحصانة القضائية للجنود الأميركيين والإسرائيليين وكان موقف الولايات المتحدة الأميركية واضحا، في أن سحب توقيعها على اتفاقية روما «كان خشية وقوع بعض أفراد القوات الأميركية المشاركة في عمليات أو صراعات خارجية أو المشاركة في قوات حفظ السلام، تحت طائلة المحكمة الجنائية الدولية، في حال ارتكاب هذه القوات جرائم دولية مثل جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية التي تقع على أراضي دولة صدقت على هذه الاتفاقية».فقد كان ماثلا أمام الولايات المتحدة الأميركية، إدانة المحكمة الجنائية الدولية في يوغوسلافيا السابقة للقوات الهولندية المشاركة في قوات حفظ السلام في سربرينتشا، لمعاونتها الصرب في ارتكاب مذابح وإبادة جماعية لآلاف من سكان المدينة البوسنيين.كما كان موقف إسرائيل واضحا كذلك في أنها أرادت حماية قوات الاحتلال الإسرائيلية وحكام إسرائيل الذين يأمرون هذه القوات بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، من الوقوع تحت طائلة العقاب أمام المحكمة الجنائية الدولية، خصوصا أن فلسطين هي أرض محتلة تحميها وتحمي شعبها اتفاقية جنيف والقانون الدولي.- «الفيتو» الأميركي يدخل معركة الحصانة الأميركية وبالغت الولايات الأميركية في إضفاء الحصانة القضائية على الجنود الأميركيين الذين يشاركون في قوات حفظ السلام، باستخدامها حق النقض «الفيتو» عند تمديد مجلس الأمن لقوات حفظ السلام في البوسنة والهرسك، وعدم تراجعها عن استخدام هذا الحق، إلا بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 1422 في 12/7/2002، الذي يلزم المحكمة الدولية بالامتناع لمدة اثني عشر شهرا عن بدء أو مباشرة أي إجراءات للتحقيق، أو المقاضاة في حال إثارة أي قضية تشمل مسؤولين أو موظفين حاليين أو سابقين تابعين لدولة مساهمة ليست طرفا في نظام روما الأساسي، فيما يتصل بأي عمل أو إغفال يتعلق بالعمليات التي تنشئها الأمم المتحدة أو تأذن بها، إلا إذا قرر مجلس الأمن عدا ذلك، مع قابلية هذا القرار للتمديد، والذي تم تمديده بعد ذلك بقرار مجلس الأمن رقم 1423 بالتمديد لهذه القوات، وبالقرار رقم 1424 بالتمديد لمراقبي الأمم المتحدة بالعمل في شبه جزيرة بريفالكا.ثم جاء قرار مجلس الأمن رقم 1497 الصادر في 1/8/2003 بإنشاء قوة متعددة الجنسيات في ليبيريا، لدعم تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه، مطلقا من أي قيد زمني وشاملا كل المسؤولين والموظفين المشاركين في العمليات التي تأذن بها الأمم المتحدة. وقد امتنعت عن التصويت على هذا القرار ثلاث دول هي فرنسا وألمانيا وسورية، كما قال كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة، حينئذ، أن تكرار ذلك سوف لن يضعف سلطة المحكمة الجنائية الدولية فحسب، بل سلطة وشرعية قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أيضاً. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات
ما قل ودل: المحكمة الجنائية الدولية في ظل عدالة غائبة 2
18-08-2008