لا يختلف المضاربون السياسيون في أوساطنا عن المضاربين الماليين في مجتمعات رأسمالية من حيث كونهم عنصرا مضعفا لعقلانية النظام العام، ومصدر تقويض له تحت تأثير دوافع أنانية وصغيرة، حتى لو انتحلت، ولطالما انتحلت، عقائد ثورية وتغييرية ووطنية.

Ad

التعريف الاقتصادي للمضاربة يضعها في تقابل مع الاستثمار، ويركز على عنصر المجازفة فيها، بل المقامرة، تطلعاً نحو ربح أعلى قلّما يوفره الاستثمار الذي يفترض عادة أنه يخلو من مجازفات غير محسوبة، ويعد بربح مضمون، وإن أدنى مما قد تدره المضاربة. والفارق الجوهري بين المستثمر والمضارب هو أن الأول يقف على أرض صلبة، يمزج عوامل إنتاج معروفة ويخطط ويدرس جدوى استثماره، وهو على العموم ينال ربحا له علاقة معلومة بالعوامل والرساميل والجهود التي وظفها. في المضاربة العلاقة غير معلومة، فقد يذهب الرأسمال المضارب كله، وقد يربح أضعافا مضاعفة لما قد يحلم به أي مستثمر. هذا هو الشيء الخطر وغير العقلاني في المضاربة: ضرب العلاقة بين الجهد والثمرة، بين البذل والنيل، بل ضرب فكرة القانون ذاتها. فرغم أن المضارب قد يخسر، فإنه قد يربح دون جهد تقريبا ما لا يربحه مستثمر إلا بمشقة. وقد تهرع رساميل كبيرة إلى المضاربة في قطاعات سجلت أرباحا لافتة (تسمى في أميركا «فقاعات»)، ما يدفع إلى انفصال حركات المال عن عمليات الإنتاج السلعي، وإلى خسائر كبرى مفاجئة على نحو ما حصل في الأزمة المالية العالمية الأخيرة.

***

غير أن المضاربة نشاط إنساني أوسع من أن ينحصر في دائرة النشاط الاقتصادي، وسنقتصر هنا على الكلام عن مضاربات سياسية ومضاربات فكرية:

عرف تاريخنا المعاصر ظاهرة سياسية عرفت بالمزايدة، أي نزوع دول ومنظمات سياسية وأفراد إلى اتخاذ مواقف يفترض أنها موافقة للتوجهات القيمية السائدة أو الصاعدة في المجتمع أو الثقافة أو في قطاعات منهما، لكنها غير متوافقة مع القوى والطاقات المتاحة بتصرف الجهة المزايدة. تتضمن وضعية المزايدة أيضا إرادة تسجيل سبق على فاعلين آخرين في الحقل السياسي الإيديولوجي نفسه. ويحرك الطرف المزايد تطلع إلى جني ثمرات كبيرة، على شكل شهرة وشعبية وشرعية وأرباح سياسية، دون حيازة القوى وبذل الجهود اللازمة من أجل ذلك.

كان تعبير التكسب السياسي شائعاً قبل عقدين من السنين أو أكثر لوصف هذه الظاهرة التي ربما يناسبها أكثر تعبير المضاربة السياسية، لكن كما يحصل بخصوص المضاربات المالية فإن أي أرباح تتحصل دونما جهد معرضة للتبخر بالسهولة ذاتها التي تحصلت بها. المنظمات والأفراد الذين اغتنوا سياسيا بفضل المزايدة قد يحتلون انتباه وسائل الإعلام وقطاعات من الجمهور لبعض الوقت لكنهم مرشحون أكثر من غيرهم للزوال دونما أثر، ولما كانت الأهداف المعلنة التي ضمنت الشهرة والشعبية للتنظيمات المضاربة تتجاوز قدراتها كثيرا، كانت تنساق إلى الارتباط بأطراف سياسية قوية نسبيا، دولا بخاصة، أو تتعرض أكثر من غيرها بسبب خفتها وهشاشتها إلى الاختراق من قبل أجهزة أمنية متنوعة، وعلى هذا النحو تحول ثوريون يطمحون إلى قلب الدول والمجتمعات إلى مرتزقة يؤجرون أنفسهم لمن يدفع، وهذا بمجمله فصل قبيح من فصول تاريخنا المعاصر في المشرق لعلنا لا نعرف بعد إلا القليل منه، لكن بعض الأسماء معروفة من الجميع.

وإذا كانت المضاربة المالية ابنة الرأسمالية، تدفع تمركز هذه حول دافع الربح إلى حدوده القصوى: أعلى ربح مقابل أقل جهد وفي أقصر وقت، لكن بأعلى مجازفة؛ فإن المضاربة السياسية ابنة تمركز اجتماعنا السياسي المعاصر حول السلطة، والطمع بأكبر قدر من السلطة، وتاليا النفوذ والهيبة والشهرة والمجد و... المال، في أقصر وقت وبأدنى جهد. ولا يختلف المضاربون السياسيون في أوساطنا عن المضاربين الماليين في مجتمعات رأسمالية من حيث كونهم عنصرا مضعفا لعقلانية النظام العام، ومصدر تقويض له تحت تأثير دوافع أنانية وصغيرة، حتى لو انتحلت، ولطالما انتحلت، عقائد ثورية وتغييرية ووطنية.

***

وليست المضاربة المعرفية أقل شأنا... في ثقافتنا المعاصرة تأخذ المضاربة المعرفية شكل التعميمات الكاسحة والنزعة التأملية و«النظران»، أي انفصال نظرياتنا عن خبراتنا وتجاربنا الحية، كما عن جسم المعارف المتاح في المجال الدراسي المعني. وفي اللغة الإنكليزية يطلق تعبير «سبكيولايشن» على المضاربة الاقتصادية كما على التأمل غير المنضبط أو النظران. يتعلق الأمر هنا أيضا بتطلع إلى القول الفصل «الحقيقة»، النظرية المبتكرة، دون الجهد المعرفي ودون الانضباط الفكري اللازم من أجل التحرر من ذلك، والدافع هنا أيضا الشهرة وبعد الصيت وما قد يبنى عليهما من مكاسب.

***

في الغرب الليبرالي، ثمة تناظر بنيوي بين الاقتصاد والسياسة والمعرفة من حيث أن لكل منها أساسا صلبا: الاستثمار، التمثيل، والتجربة؛ أو لنقل التمثيل عامة؛ فالأموال «تمثل» عملا بشريا متجسدا في سلع، والدول «تمثل» مجتمعات، والمفاهيم «تمثل» وقائع وخبرات. يلفت الانتباه مثلا أن المثقف الغربي المتوسط يوثق بحثه بالمراجع والمصادر، وربما بالتقصيات الميدانية، ما يفترض أنها أوثق صلة بـ«الواقع»، بصورة قلما تتاح للأبرع بيننا. نحن، حتى لو أهملنا رغبة في التعميم تتملكنا وقلما نتمرد عليها، وربما نازع سطو شائع بيننا (ليس أقل شيوعا بين الغربيين)، نجنح إلى ممارسة سلطة معرفية استبدادية على الوقائع عبر المبالغة في التعميم وادعاء أفكارنا تمثيل الوقائع دون إتاحة الفرصة لهذه لقول كلمتها أو الاعتراض على نظام تمثيلها. وفي ظننا أن العلاقة وثيقة بين نظام تمثيل الوقائع معرفيا وتمثيل الناس سياسيا، وربما تمثيل العمل البشري اقتصاديا. فالتمثيل الديمقراطي للمجتمعات ربما يتوافق أكثر مع التمثيل المفهومي المدقق للوقائع («المعرفة الموضوعية») ومع التمثيل «العادل» للعمل البشري (نظرية القيمة/ العمل). وقد تكون الديمقراطية والرأسمالية التنافسية والمعرفة الموضوعية متبادلة الإشراط. ومن المحتمل، إن صح ذلك، أن ما بعد الرأسمالية هو أيضا ما بعد الديمقراطية التمثيلية وما بعد الموضوعية في المعرفة (معلوم أن ما بعد الحداثة يتشكك في موضوعية المعرفة...). بالمقابل، ربما تتعذر الديمقراطية في ظل أوضاع معرفية تتسم بالمضاربة النظرية، ومع أوضاع اقتصادية تسود فيها بالمداخيل الريعية. فلهذه الأخيرة تأثير مماثل لتأثير المضاربة: فك العلاقة بين الجهد والثمرة أو بين البذل والنيل.

في الختام إن كان جذر للأزمة المالية والاقتصادية العالمية أرجحية العمليات المالية على عمليات الإنتاج المادي، ألا يمكن الكلام على أزمة فلسفية تنفصل بموجبها المعرفة عن أي مرجع واقعي (يسميها منظرو ما بعد الحداثة اللاارتكازية nonfoundatinalism) وتنتقد فيها نظرية التمثيل؟ وربما على أزمة سياسية عالمية تتمثل في الأصولية؟

غير أن هذه الأسئلة تحتاج إلى تناول مستقل.

* كاتب سوري