في وقت سابق من هذا الشهر أيدت المحكمة الجنائية الدولية الطلب الذي تقدم به كبير ممثلي الادعاء لدى المحكمة لاستصدار أمر باعتقال عمر البشير رئيس السودان، متهماً إياه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وسرعان ما رد البشير بطرد وكالات الإغاثة الأجنبية التي كانت ترعى معسكرات اللاجئين في دارفور.

Ad

هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها توجيه الاتهام إلى رئيس دولة مازال يتولى منصبه بارتكاب جرائم حرب، ولقد انقسمت ردود الفعل في أنحاء العالم المختلفة بين هؤلاء الذين أشادوا بهذا التحرك باعتباره خطوة عظيمة نحو تحقيق العدالة الدولية وأولئك الذين أدانوه بوصفه شكلاً من أشكال الاستعمار. والحقيقة أن كلا الموقفين غارق على نحو ميئوس منه في ضباب فكري أخلاقي.

لم يكن أمر الاعتقال بمنزلة قفزة إلى الأمام. فمن وجهة النظر القانونية لا يوجد فرق بين ما إذا كان المتهم رئيس دولة سابقاً أو حالياً. بيد أن الفارق بين الحالتين على المستوى العملي بالغ الضخامة، فالحاكم الذي مازال يشغل منصبه قادر على إلحاق المزيد من الضرر بشعبه في المستقبل، وهو ما لا يقدر عليه حاكم سابق. وعلى هذا فلا يجوز لنا أن نعطي حاكماً حالياً الحافز للانتقام.

كانت السياسات التي انتهجها البشير سبباً في وفاة ما يقدر بنحو ثلاثمئة ألف شخص وتشريد حوالي 2.7 مليون آخرين في دارفور. ولقد تسبب طرد وكالات الإغاثة في تعريض أكثر من مليون من أهل دارفور لخطر الأوبئة والمجاعة. وطبقاً للتشريع الذي أسس لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، فإن المدعي العام مُـلزَمٌ بضمان مراعاة أي ادعاء أو ملاحقة قضائية لمصالح الضحايا قبل العدالة. ولكن بالنسبة للمحامين من أمثال كبير ممثلي الادعاء لدى المحكمة الجنائية الدولية، فإن مزاعم العدالة المجردة أكثر قوة وحياة من أي واجب مادي ملموس من واجبات الحماية. وفي هذه الحالة فإن العدالة تأتي على رؤوس سهام مسمومة.

فضلاً عن ذلك فقد انسحب متمردو دارفور المنتمون إلى «حركة العدالة والمساواة» من محادثات السلام مع الحكومة السودانية بعد أن تشجعوا بفعل أمر الاعتقال واقتراحه الـمحير غير المفهوم بشأن الدعم الدولي. وفي الوقت نفسه فمن المؤكد أن البشير سينتهز الفرصة لمهاجمة أعدائه في ضوء أنه لم يعد لديه ما يخسره.

يزعم أصحاب الحجة المضادة أن التهديد بالاتهام من شأنه أن يردع الحكام عن سلوكهم الشرير. ولكن أي قانون لن يكون رادعاً إلا إذا كانت العقوبات التي يفرضها مقنعة. والقوانين التي لا يمكن فرضها لن تردع أحداً، بل ومن شأنها أيضاً أن تضعف من احترام الناس للقانون.

فضلاً عن ذلك، فرغم أن خوف الحكام من أن يُـساقوا إلى لاهاي قد يكون له بعض الأثر في ردعهم عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فإنه من السخيف أن نزعم أن أمر اعتقال البشير من شأنه أن يردع المجموعة الحالية من منتهكي حقوق الإنسان. بل من المرجح أن يؤدي أمر الاعتقال هذا إلى إطالة أعمار الأنظمة الشريرة. على سبيل المثال، يرفض روبرت موغابي ترك منصبه خوفاً من تقديمه للمحاكمة- وهو ثمن باهظ بات مفروضا على شعب زيمبابوي أن يتحمله.

أياً كانت المزايا الظاهرية في مبدأ «حرمان المجرمين من أي مكان يحتمون به مهما كانت العواقب»، فلا يجوز لنا أن نتجاهل هذه العواقب حين يكون المجرمون رؤساء دول. وليس من الممكن أن نُـصَعِّد مبدأ عدم التفاوض مع الإرهابيين إلى مستوى الدول إذا كان هذا التصعيد من شأنه أن يهدد أرواح مئات الآلاف من البشر.

وفي الوقت نفسه فإن تهمة الاستعمار ليست أكثر من رد فعل منعكس: فالاستعمار لم يعد له وجود. واتهام القانون الدولي بأنه مجرد «قانون غربي» أيضاً كلام فارغ. فالقانون الدولي هو ضمير البشرية. ولكن الاعتقاد بأن تطبيق هذا القانون يتم بشكل انتقائي هو في الحقيقة اعتقاد صحيح.

ففي محكمة نورمبرغ عام 1946، التي أرست الأساس للقانون الدولي الحالي، كان الاتهام الرئيسي الموجه إلى قادة النازية هو «التخطيط لحرب عدائية وشنها». والحقيقة أن حظر شن الحروب إلا بغرض الدفاع عن النفس مبدأ متأصل في صلب ميثاق الأمم المتحدة. ولكن العجيب أن مؤسسي المحكمة الجنائية الدولية اعتبروا شن الحرب العدائية- الذي وصَّفته المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ بالجريمة الدولية العظمى- خارج نطاق اختصاص المحكمة. وبهذا ضمنوا الحصانة القانونية للقادة الذين نفذوا عملية غزو العراق.

وأيضاً تنطبق تهمة تطبيق القانون بشكل انتقائي على أمر اعتقال البشير. فهو متهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وطبقاً لتعريف مبادئ نورمبرغ في عام 1950 للجرائم ضد الإنسانية فهي تتضمن القتل، والإبادة، والاستعباد، والطرد، و«أفعال غير إنسانية أخرى». وفي عام 1998 تم توضيح عبارة «أفعال غير إنسانية أخرى» بأنها تعني السجن بلا تهمة حقيقية، والتعذيب، والاغتصاب، واضطهاد مجموعات من الناس، وحالات الاختفاء القسري، والفصل العنصري.

ليس من المدهش إذن أن نقرأ في صحيفة «عرب نيوز» أن مذكرة اعتقال البشير «تفوح منها رائحة النفاق». فلماذا لم تصدر أوامر باعتقال بوش وتشيني؟ ألا تعتبر عمليات تسليم المتهمين الاستثنائية إلى دول تستخدم التعذيب جريمة مماثلة لحالات «الاختفاء القسري للأشخاص»؟ ألا يعتبر تغطيس رأس المتهم خالد شيخ محمد في الماء تعذيباً؟ ولماذا لم يحاكم فلاديمير بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب في الشيشان؟

الإجابة بسيطة: فكلما كانت مصلحة أحد البلدان الأعضاء في مجلس الأمن أو أحد عملائها مهددة ينتهي اختصاص المحكمة وسلطانها القضائي. الحقيقة أن المحكمة الجنائية الدولية أشبه بخيوط العنكبوت التي يلتصق بها الذباب الصغير، أما الزنابير والدبابير فتمر عبرها.

ما لم تصدق الولايات المتحدة على المعاهدة المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية فمن المحتم أن ينظر إليها العديد من الناس باعتبارها مجرد محكمة هزلية مُـسيَّسة. ومن دون الدعم الأميركي للمحكمة فلا أمل لها في اكتساب الشرعية، ناهيك عن أداء وظيفتها على نحو فعّال.

إن مجلس الأمن يتمتع بالسلطة اللازمة لتأجيل تنفيذ أمر اعتقال البشير لمدة سنة قابلة للتجديد. ومن الممكن أن يؤجل مجلس الأمن القرار إلى ما لا نهاية، ويبدو من المرجح أن يفعل المجلس هذا. ولكن الفكرة هنا أن تأجيل أمر الاعتقال من شأنه أن يسمح لمجلس الأمن بفرض نفوذه على السودان. وصف غاريث إيفانز وزير خارجية أستراليا الأسبق أمر الاعتقال بأنه «أداة دبلوماسية قوية»، بينما دعت صحيفة «واشنطن بوست» إلى «استخدام أمر الاعتقال كورقة مساومة مع السيد البشير وحلفائه في الصين والبلدان العربية». ويبدو أن أصحاب هذه الدعوة يتصورون أن التهديد بالاعتقال من الممكن أن يستخدم لإرغام البشير على إصلاح أساليبه.

إذا أثبت هذا التصور صحته فإن المحكمة الجنائية الدولية تكون بهذا قد خلطت بين العدالة والدبلوماسية. وإذا لم يكن بوسع العالم أن يحقق العدالة إلا على حساب الضعفاء ولمصلحة الأقوياء، فمن الأجدر به أن يتمسك بالأدوات القديمة لمنع الجريمة، مثل القوة والتفاوض، وأن يخرج العدالة من هذه المعادلة القذرة.

* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك 

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»