أصدرت محكمة مصرية حكماً غيابياً، بحبس رئيس مركز «ابن خلدون» للدراسات الإنمائية، الدكتور سعد الدين إبراهيم، سنتين وكفالة 15 ألف جنيه لإيقاف التنفيذ، بتهمة «تشويه صورة مصر بالخارج»، وكانت الدعوى أقيمت من محام منذ عام ضد سعد، اتهمه بكتابة مقالات في الصحف الأميركية، طالب فيها الرئيس الأميركي، بربط المعونة الأميركية لمصر بتحقيق الإصلاح السياسي، مما تسبب في الإضرار بمصر واقتطاع جزء من المعونة يبلغ 200 مليون دولار- تبلغ المساعدات الأميركية لمصر مليارين و200 مليون دولار سنوياً، تقررت دعماً لمصر بعد اتفاقية «كامب ديفيد».

Ad

أثار الحكم ردود أفعال متباينة، فالناقمون على سعد، الكارهون للسياسة الأميركية تلقفوا الحكم بلهفة للتشفي والتنكيل بسعد، وطالبوا بسحب الجنسية منه بتهمة الخيانة وبلغ الغل ببعضهم، وخصوصا صحف الإثارة أن قالت عن سعد «باع نفسه للشيطان»، في المقابل هناك المنظمات الحقوقية التي وصفت المحاكم الغيابية بأنها حلقة في مسلسل قمع حريات الرأي والتعبير، ودافعت شخصيات مصرية عن سعد، ورفضت تهمة الإساءة إلى مصر لأنه ليس هناك شخص يستطيع أن يفعل ذلك، ويؤثر في العلاقة بين بلدين مثل الولايات المتحدة ومصر، مستبعدين اقتطاع جزء من المعونة، وتضامنت «المؤسسة العربية للديمقراطية» ومقرها الدوحة مع سعد، معبرة عن بالغ قلقها من الحكم، وأسفها لإقحام القضاء في قضايا تتعلق بحرية الرأي والتعبير، لكن أشد الاحتجاجات جاءت من السفيرة الأميركية بالقاهرة (سكوبي)، التي وصفت الحكم بأنه «مخز ومدعاة للعار»، مما دفعت بعض الصحف إلى وصفها بالسفيرة «الوقحة»، لتدخلها في الشؤون الداخلية.

- لكن ما مشاعر وانطباعات د. سعد الغائب عن بلده منذ أكثر من سنة، تجاه هذا الحكم وهذا الاتهام؟

كتب د. سعد مقالين «من الذين يلوثون صورة العرب والمسلمين؟»، و«هل التوظيف السياسي للقضاء هو النهاية؟» قال فيهما: إن تهمة الإساءة إلى مصر وتشويه صورتها في الخارج، هي من التهم الجاهزة التي تستخدمها الأنظمة المستبدة ضد معارضيها من أصحاب الرأي والضمير، وهي تظهر في الدعاوى كلها بالعبارات والكلمات نفسها منذ عشر سنوات، وقد حوكم وسجن ثلاث مرات إلى أن تمت براءته من قبل محكمة النقض عام 2003.

وبكلمات مريرة وحزينة يقول سعد: لقد نجحوا في المرة السابقة في سرقة ثلاث سنوات من عمري، ودمروا صحتي، وشوهوا سمعتي، واستنزفوا موارد أسرتي، وهم يريدون اليوم تكرار التجربة الأليمة نفسها، وأنا اليوم على مشارف السبعين من عمري، وينعى سعد على هؤلاء المتزلفين للأجهزة الحكومية بأن هدفهم استنزاف الضحايا وتشتيتهم في أرض الله الواسعة خارج الديار المصرية رغم علمهم بأن القضاء المصري في النهاية سيحكم ببراءتهم.

- لكن لماذا يثير الحكم على سعد هذا الجدل كله؟!

1- يأتي الحكم على خلفية الخصومة الشديدة المستمرة منذ 8 سنوات من قبل الحكومة المصرية ضد د. سعد وفي سياق شد وجذب بين الحكومة ومعارضيها- عامة- مما أفرز حالة «احتقان» تتزايد يوماً بعد يوم، ثم ان د. سعد شخصية مثيرة للجدل على نطاق واسع وعلى أكثر من صعيد سياسي وحقوقي واجتماعي، فهو أكاديمي عريق له تلاميذه الكثر والكبار، وهو عالم الاجتماع الأبرز، والناشط الأكبر في مجالات حقوق الإنسان وقضايا الأقليات خصوصا، وقد سبق أن تعرض لحملات تشويه واسعة من قبل خصوم سياسيين ومثقفين عندما عقد قبل عشر سنوات مؤتمراً للأقليات، حيث اتهموه بخدمة الأجندة الخارجية الساعية الى تفتيت المنطقة، كما أن سعد هو الرائد في منظمات المجتمع المدني والناشط في اللجان الدولية المراقبة للانتخابات والحاضر المتحدث في مؤتمرات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويوضح الكاتب الصحافي- طه خليفة- في مقالة بعنوان: «هل: د. سعد في خطر؟» أسباب الهجوم على سعد فيقول: هناك أكثر من فريق يشن حملات ضده، تتهمه بالخيانة والعمالة والاستقواء بالخارج على وطنه، وهذه الحملات تؤتي أكلها عند رجل الشارع البسيط الذي لا يوضع في الصورة بجوانبها كافة، أي لا يقال ما للدكتور سعد وما عليه، حتى يحكم الناس عليه وبشكل موضوعي.

2- يأتي الحكم في ظل الحساسية المصرية المتزايدة ضد أي نقد خارجي للأوضاع الداخلية في مصر وخصوصاً في ما يمس الأقلية المسيحية، ود. سعد له دور بارز في هذا المجال وإذا أضفنا إلى ذلك أن في الكونغرس الأميركي مجموعة من النواب برئاسة «فرانك وولف» معنية بوضع الأقباط في مصر، وقد قدمت مشروعاً يطالب الحكومة المصرية باحترام حقوق الإنسان وحريات الأديان والتعبير، ويشير بشكل خاص إلى أشكال من التمييز في المناصب العليا والتمثيل السياسي ومضايقة المتحولين من الإسلام الى المسيحية وصعوبات في ترميم وبناء الكنائس تمارس ضد المسيحيين في مصر، عرفنا مدى الحساسية السياسية للحكم في هذا السياق الملتهب.

دعنا الآن نناقش طبيعة التهمة الموجهة الى سعد «تشويه صورة مصر»... وهل أساء سعد إلى مصر؟

مع عميق إيماننا بعدالة القضاء المصري ونزاهة قضاته، ومع ثقتنا بحصول سعد على البراءة في النهاية، لنا وقفة مع تهمة «الإساءة الى سمعة مصر ومكانتها» الواردة في حيثيات الحكم، فمصر بمجدها التاريخي ومكانتها الدولية أعظم وأعلى من أن يسيء إليها أحد- كائناً من كان.

إن الاتهامات التي مازلنا نرددها مثل «تشويه صورة الوطن»، و«الإساءة الى مصر» و«الخيانة» و«العمالة» والمطالبة بسحب الجنسية، موضع سخرية العالم، ولا يعرف العالم المتحضر هذه الاتهامات التي نرمي بها المعارضين بهدف تشويههم وتغطية سوءات النظام، ولا يوجد في تشريعاته تهمة «تشويه سمعة الوطن»، وهي من بقايا النظم الشمولية التي فرضت الأسوار الحديدية على شعوبها خشية أن يسمع العالم صيحاتهم. لقد تجاوز العالم تلك المرحلة وأصبح شفافاً مكشوفاً بفعل ثورة الاتصالات وأصبحت الشعوب متقاربة تحس بآلام بعضها بعضاً ولذلك لا تحتاج حكومات العالم المتحضر إلى مَن يكشف ويرصد انتهاكات حقوق السياسيين في المجتمعات العربية، لأنهم أدرى بها، وهم ليسوا بحاجة إلى من يطالبهم بربط المساعدات بتحقيق الإصلاحات السياسية لأن شعوب تلك الحكومات هي التي تطالب بذلك.

ما أساء سعد إلى وطنه مصر، وما كان ذلك له بخلق، ومطلب ربط المعونات بالإصلاح ليس تهمة، وهو ليس مطلبه وحده، بل مطالب عامة الليبراليين العرب الذين يرون ضرورة الضغط الخارجي لإحداث التغيير السياسي، انطلاقاً من أن العرب قوم يستعصون على التغيير والإصلاح إلا بسلطان.

وإذا كان النظام السياسي في مصر ساءه فعل سعد، فالأولى أن يبادر بالإصلاح بنفسه بدل أن يفرض عليه أو أن يحاكم سعداً، بتهمة الإساءة إلى مصر، هو أساء إلى النظام وهذا حقه المشروع، لكنه ما أساء إلى مصر، الإساءة الى النظام ليست إساءة الى مصر. النظام زائل والوطن باقٍ، وهو فوق الأشخاص وتصرفاتهم.

وإذا كان العرب تحدثوا عن المستحيلات الثلاثة، فإن المستحيل الرابع حصول إصلاح داخلي من دون تأثير خارجي.

ويبقى أن أقول للواهمين الحالمين بحصول إصلاح من دون تدخل الخارج: هاتوا إصلاحا داخليا واحدا- تعليمياً أو اجتماعياً أو سياسياً- وعلى امتداد قرن كامل، تم من دون تأثير أو ضغط خارجي.

*كاتب قطري