ضحية نموذجية ونموذج انتصار
ليس مصادفة بالطبع أن تنطلق مسيرة «الحرية لغزة» في ضاحية بيروت الجنوبية مع انتهاء التهدئة في القطاع. فبضعة صواريخ «حمساوية» أو «جهادية» على إسرائيل تُستتبع برد دموي، كان يمكن أن تضيف نكهة مميزة على شعار المسيرة «الصمت على الحصار حصار»، وهو عملياً تهمة جاهزة يوجهها المنظمون وعلى رأسهم «المؤتمر القومي العربي» و«المؤتمر القومي الإسلامي» وغيرهما بقيادة «حزب الله» ليس إلى إسرائيل، بل إلى عموم الفلسطينيين غير المؤيدين لـ«حماس»، وإلى عموم العرب الذين يعارضون استيلاء هذا الفريق على السلطة في غزة وتشتيته مشروع الدولة بين الضفة والقطاع، وإلى سائر الناس في الكون الذين يمتلكون وجهة نظر أخرى في الصراع، ويؤيدون أسلوباً آخر في إدارته منطلقين أيضاً من وقائع وقناعات.غزة «نموذجية»، هكذا يوحي التمجيد للتجربة التي خاضتها «حماس» بالانقلاب على السلطة وطردها من غزة بعدما ألقى عناصرها رفاق السلاح والكفاح من «فتح» من الطبقات العليا في البنايات. والاعجاب بالنموذج الغزاوي أقوى وأهم بكثير من «إنجاز 7 أيار» الذي اقتصر على حصار الأخصام وإحراق وسائل إعلام والتسبب في مقتل بضعة أبرياء. فهناك في غزة وصلت الشكيمة حد الانتصار، أما في بيروت والجبل فوقفت حتى الآن عند حدود التوازنات.
وغزة أيضا «ضحية مثالية»، إذ يساهم البؤس فيها والإجرام الإسرائيلي المألوف ضدها في تغذية إيديولوجيا المقاومة الدائمة وإقفال أفواه الداعين إلى حلول وتسويات، حتى لو ورثوا شرعية تاريخية وظفروا برئاسة السلطة عبر صناديق الاقتراع. وهي تسمح بالتالي بالقفز فوق المصالح الوطنية الفلسطينية مثلما تتيح فرصة ذهبية لتصفية الحسابات الإقليمية عبر اللعب على أوتار الجماهير الشعبية العابرة للحدود والدول.هكذا تستطيع إيران عبر شعاري «فك الحصار الظالم» و«السكوت عن الحصار حصار» أن تدفع بمشاعر العداء نحو الدولة المصرية إلى أقصى الحدود محملة إياها المسؤولية الكاملة عن معبر رفح، وأن توجه رسائل إلى دول الخليج عبر شريط الأخبار في «المنار» الذي مضى يعلن عن «تظاهرات مرتقبة في البحرين، حيث سيتم التجمع في مجمع جيان»، وعن «تجمعات للشباب السعودي في القطيف» ليُتبعها لاحقاً بمعلومة حول قمع المتظاهرين في البحرين، وهو ضرب من العزف على الوتر الشيعي لا يمت بصلة إلى وجوب التضامن مع غزة، بغض النظر عن التوقيت الإيراني. لا تنفصل الأهداف الإقليمية لتظاهرة التنديد بالحصار عن الأهداف الداخلية لـ«حزب الله» وقوى «8 آذار» في لبنان، لكنها تكشف مفارقة جديرة بالاهتمام. ففي الوقت الذي يعلن فيه أولمرت إرسال مبعوث إلى تركيا لمتابعة المفاوضات مع دمشق، وتشجع سورية لبنان على التفاوض الثنائي مع إسرائيل، يعلن نائب الأمين العام لـ«حزب الله» نعيم قاسم، خطيب التظاهرة، أن المقاومة ضد التسوية وهي معنية بتحرير كل فلسطين، وتنطلق أصوات مؤكدةً أن «ثقافة المقاومة» بحاجة إلى تعميم وستبقى إلى الأبد محمية بالسلاح.وفي هذا الإطار تبدو قوى «الثلث المعطل» في لبنان راغبة في «عرض قوة جماهيري» يختزن طاقة عنفية قادرة على كسر المعادلات في رسالة واضحة تستبق الانتخابات معلنة أن النتيجة لن تؤثر في مجريات الصراع ما دام «الشارع» هو صاحب الحق، و«السلاح» مقدسا، والملفات الإقليمية عالقة. و«النموذج الضحية» القابل للاستثمار جاهزاً في «الحصار»، ونموذج الانتصار الكامل متجسداً في «7 أيار الغزاوي» إن لم يتجسد في «7 أيار لبنان». أما وقف الأزمات الاقتصادية ومنع تفكك دولة لبنان والحؤول دون ابتعاد حلم الدولة في فلسطين فهي من آخر الأولويات.ألم يهلل اسماعيل هنية: «سقط بوش وبقينا»؟ألم يفتخر معظمنا بالحذاء؟!