محنة الأقليات الدينية في المجتمعات العربية

نشر في 09-03-2009
آخر تحديث 09-03-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري حذر تقرير صدر عن «المنظمة الدولية للحكم الرشيد» من خطورة وضع الأقليات في العراق، واستعرض وضع الأقليات العراقية التي تضم المسيحيين: الكلدانيين، والآشوريين، والسريانيين، والصابئة واليزيديين والشبك والأكراد الفيليين وغيرهم من الأقليات التي اتخذت من العراق موطناً لها منذ عصور سحيقة، واستنتج أن الأقليات ليست ضحايا العنف والنزاع الطائفي فحسب، بل هي ضحايا منافسة الأجندة السياسية.

وقال: «إن عملية ترحيلهم هي نتيجة لكل تلك الأسباب» واعتبر التقرير أن ما يجري في العراق من تعامل مع الأقليات هو انتهاك لإعلان حقوق الإنسان، مؤكداً أن الأقليات تحت تهديد مستمر، سواءً من قبل الجماعات المتطرفة أو الأحزاب الدينية، وأفاد بأن حوالي 80% من الصابئة غادروا العراق خلال السنوات الخمس الماضية، و أنهناك نحو 60% من المسيحيين وغيرهم غادروا العراق خلال نفس الفترة أو اضطروا للنزوح إلى مناطق أخرى، ومما يؤسف له أن البرلمان العراقي أسقط المادة 50 من قانون انتخابات مجالس المحافظات مما خفّض مقاعد الأقليات إلى النصف، فخيب آمالها وأشعرها بالظلم والتهميش.

وإذا تجاوزنا هذا الوضع المأساوي للأقليات الدينية التاريخية في العراق إلى وضع الطائفة اليهودية في اليمن فإنه أكثر سوءاً، إذ هدد الحاخام الأكبر لليهود ببيع ممتلكاتهم، ومغادرة اليمن نهائياً، وذلك بعد مقتل أخيه «ماشا النهاري» على يد طيار سابق يدعى عبدالعزيز العبدي في «11/9» وأكد زعيم الطائفة أن طائفته تلقت تهديدات تطالبها بالرحيل عن اليمن أو الموت، وطلب من الرئيس اليمني توفير الحماية والأمن لأبناء طائفته، أو دفع قيمة ممتلكاتهم وترحيلهم من اليمن، وقد ثبت من تحقيق النيابة أن أسباب قتل «ماشا» ترجع إلى «دوافع دينية متطرفة»، واعترف المتهم بأن ما قام به هو «تقربٌ إلى الله» وأنه أنذر اليهود، وخيّرهم بين ثلاث: الدخول في الإسلام، أو مغادرة البلاد، أو السيف، ولأنهم تجاهلوا رسالتة قام بتنفيذ الخيار الثالث، لكن المحكمة اكتفت بالحكم عليه بدفع الدية بحجة أنه مختل عقلياً!!

الوجود اليهودي في اليمن عريق في التاريخ يمتد إلى ألفي سنة، زمن خراب الهيكل الأول، وتمكن اليهود خلال بضعة قرون من تولي مراكز مهمة في المجتمعين السياسي والاقتصادي، وأصبحوا أغنى الأغنياء، وتولوا مناصب قايدية في مملكة سبأ، واستمروا محافظين على مكانتهم في العهد الإسلامي، وحافظوا على هويتهم، وبرز بينهم حكماء ومفكرون، وتميز يهود اليمن عن غيرهم من اليهود بتقاليد وعادات دينية قريبة من العادات العربية، فأطلقوا أسماء عربية على أولادهم وبناتهم، حتى أن النساء اليهوديات التزمن بالنقاب كالمسلمات، وعلى الرغم من محاولات الوكالة اليهودية في دفع اليهود للهجرة إلى إسرائيل فإنهم تمسكوا بوطنهم، ورفضوا الهجرة إلا عدداً قليلاً، ومع استمرار المضايقات عبر العقود الأخيرة تقلص الوجود اليهودي إلى 300 شخص، ومنذ سنتين ونصف ومع تصاعد «المد الأصولي المتطرف» في اليمن بدأ اليهود يواجهون صنوفاً من التهديدات والعدوان والشتائم، مما دفعهم للتفكير في الهجرة.

ويشرح سعيد دهاري المواطن اليهودي اليمني الذي وصل للتو، وأفراد عائلته إلى إسرائيل، أسباب هجرته فيقول: «لم أخطط للرحيل عن اليمن، والناس العاديون في «ريدة» لم يضايقونا، بالعكس فنحن نقيم علاقات ممتازة مع جيراننا المسلمين ولكن بعد الحرب على لبنان بدأنا نشعر بسيطرة الأصوليين وكراهيتهم لنا، يشتمون اليهود ونسمع كلمات التهديد، ويقذفون علينا الحجارة، ويهينوننا، ويقاطعون حوانيتنا، فصرنا نمضي أغلبية الوقت في بيوتنا إلى أن قتلوا «ماشا»، علماً أنه من اليهود الذين يكفرون بالصهيونية، ويحاربون ضد الهجرة إلى إسرائيل ويرون أن إقامة دولة إسرائيل سنة 1948،مخالف للتوارة، لأن إسرائيل لا تقوم إلا عند قدوم المسيح المخلص، وكان الهدف من مجيء «ماشا» إلى اليمن إقناع اليهود في البقاء، وعدم الهجرة إلى إسرائيل»، ويستطرد سعيد فيقول: «قتل النهاري أثار موجة من الخوف والقلق لدى اليهود، وحضر مندوب من الرئيس اليمني لطمأنتهم وعرض عليهم الانتقال إلى صنعاء للعيش على حساب الدولة، فانتقل 50 يهودياً وبقي 230 يهوديا»، ويتابع سعيد: «أنا من الذين ترددوا، فنحن نثق بالرئيس اليمني عندما يقول إنه يحمينا، فهذه هي شيم اليمنيين، وهذا هو الإسلام الحقيقي، لكن عندما ألقيت القنبلة على بيتي تغير الوضع، كان ذلك بعد شهر من مقتل «ماشا النهاري»، إذ تم إلقاء القنبلة لتنفجر تحت شباك غرفة الأطفال، وقد نجوا بأعجوبة، عندها حسمت أمري وقررت الهجرة».

إن محنة الأقليات الدينية لا تقتصر خطورتها على كونها عدواناً على حق الإنسان في العيش آمناً في وطنه، ولا كونها تهديداً للوحدة الوطنية واستقرار المجتمع، ولا حتى في كونها إساءة لتعاليم الإسلام والمسلمين، بل الخطورة الأعظم تتمثل في دفع العديد من اليهود العرب للهجرة إلى إسرائيل ليشكلوا مدداً ويعوضوا النقص الديمغرافي فيها، وإذا عرفنا أن التقارير تتحدث عن انخفاض حاد في الهجرة اليهودية لإسرائيل، إضافة إلى مشكلة الهجرة المعاكسة، أدركنا كم يخدم «المد المتطرف» إسرائيل!!

وليست أوضاع الأقليات الدينية والمذهبية في العديد من الدول العربية أحسن حالاً، فهناك صنوف من «التمييز الديني والمذهبي» تمارس ضدها، وهناك خطاب ديني «تحريضي» ضد حقوقها، ليس من الدولة بل من قبل الجماعات المتشددة وبعض الرموز الدينية المتنفذة والأتباع المتأثرين بطروحاتهم العدائية، هناك تمييز ممارس ضد المسيحين، وهناك اضطهاد وإقصاء لطائفة البهائيين، بل حتى الأقليات المذهبية كالطائفة الشيعية لم تسلم من التمييز.

هذه الأوضاع غير العادلة، تشكل تحديات كبيرة أمام استقرار وأمن مجتمعاتنا، وهي عقبات في طريق التنمية والتقدم وغرس مفهوم المواطنة، لقد عاشت الأقليات الدينية والمذهبية، على امتداد التاريخ الإسلامي، تنعم بالأمان والحماية، والتزم المسلمون بالعهود والمواثيق الضامنة لحقوق وحريات الأقليات الدينية، فما الذي قلب حياة الأقليات اليوم بؤساً ومعاناة؟! وما الذي جعلها تشعر بحالة «الاغتراب) في أوطانها؟! إنه «المد المتطرف» الذي غمر الساحة العربية، وغرّر ببعض أبنائها، وأضعف مشاعر الإنسانية والتسامح في نفوسهم، فاندفعوا لاستهداف الآخر الديني والمذهبي، إنه محصله سلبية لإخفاق العوامل الأساسية الثلاثة في تحصين الشباب وتقوية مناعتهم تجاه أمراض التطرف والكراهية والتعصب، وهي: المناهج الدينية، والمؤسسات الدعوية، والمؤسسات الثقافية التي فشلت جميعاً في أهم وظائفها، وهي غرس قيم التسامح، وقبول الآخر، وتعزيز المشترك الديني والأخلافي بين الأديان الثلاثة في نفوس أتباعها، بما يحقق إمكانية التعايش على أساس حسن الجوار، والتآخي الإنساني، ونبذ ثقافة الكراهية والعنف.

إذا كانت هذه حالة الأقليات الدينية والمذهبية في بلادنا، فللمرء أن يتساءل وهو يرى سعي دولنا إلى استقطاب العشرات من المؤتمرات حول «حوار الأديان» و«التقارب بين المذاهب» ما جدوى هذه المؤتمرات؟! وما الذي قدمته على صعيد نبذ ثقافة التعصب والكراهية وغرس قيم التسامح وقبول الآخر؟!

لقد ذهبت الجهود و الموارد سدى، وللمرء أن يعجب أيضاً من سعي الدول العربية والإسلامية إلى استصدار قرار من الأمم المتحدة يمنع «الإساءة إلى الأديان»، إذ لنا أن نتساءل: هل تكون دولنا قادرة في حال- صدور هذا القرار- على حماية الأقليات الدينية والمذهبية من إساءات «المد المتطرف» واعتداءاتها عليها، ناهيك عن تحقير وازدراء معتقداتها؟!

* كاتب قطري

back to top