وأخيرا، انتهيت من قراءة رواية «وكالة عطية» للأديب الكبير خيري شلبي، واقر بأنها أكثر رواية أخذت مني وقتا طويلا في قراءتها، بدأتها في الأسبوع الأول من شهر أغسطس وانتهيت منها في الأسبوع الثالث من أكتوبر، أي بعد 11 أسبوعا، وهذه أطول فترة أخذها مني كتاب في قراءته، وعلى امتداد ثلاث دول صاحبني فيها، والسبب كان واضحا بالنسبة إلي وغريبا في ذات الوقت.

Ad

الرواية تتحدث عن وكالة تسمى باسم مالكها الأول وهو عطية، والوكالة مكان أثري قديم عبارة عن حوش فيه غرف عديدة موزعة على الدور الأول والثاني، مؤجرة لأشخاص من قاع المجتمع المصري منهم الشحاذ، واللص والنصاب، «القرداتية، ودقاقة الوشم، والغازية، وقارئة البخت، وسارق الحمير، وغيرهم من أهل النصب والحيلة»، والوكالة بحد ذاتها آلت إلى شخص استولى عليها أيضا بالحيلة وهو «شوادفي» الذي بات يديرها بكل مالا يخطر على البال من نصب وإجرام وشر. يأتي ليسكن معهم طالب ريفي ترك دراسته بسبب اعتدائه بالضرب على مدرسه الذي ظلمه، وفصل بسببه من المدرسة، هذا الطالب يقوم برواية كل ما يشاهده في هذه الوكالة، ويحكي حياة وقصص كل من فيها. الرواية غنية بشخصيات مرسومة بدقة وبمعايشة حقيقية تكاد تنط من الورق من قوة تجسيدها، وهذه هي قدرة الكاتب الكبيرة في نحتها وانطاقها وتصويرها، وهذا أجمل ما في الرواية، وهي بلا شك رواية مميزة وأنا أعترف بأنها المرة الأولى التي قرأت فيها رواية للأديب «خيري شلبي»، ولا أدري لماذا لم اقرأ له من قبل؟

على كل حال لي ملاحظات على هذه الرواية، وهي لا تخص هذه الرواية بعينها ولكني وجدتها أيضا في روايات أخرى لكتاب أصدقاء أخذت مني كتبهم وقتا طويلا في قراءتها، والسبب لا يعود لطولها وامتداد صفحاتها، بل يعود لبناء الشكل الروائي فيها، فهو لا يرتفع رأسيا بل يتمدد بالعرض ويستمر بالنمو والتمدد بهذا الشكل كأنه رصف بلاطة بجانب بلاطة إلى ما لا نهاية، وهذا الأمر ينطبق على كل الروايات التي تتبع هذا النهج الروائي في أسلوبها، وهو أن تكون الأحداث تدور في قطار أو طائرة أو في بناية أو حي أو قرية أو مدرسة... الخ، وأن يتناول الراوي قص حكاية كل واحد من هذه الشخصيات الموجودة في المكان، الذي قد يكون سفينة أو حارة أو عمارة أو حافلة الخ، مما يسلب الرواية من بنيتها الدرامية المشدودة ويحولها إلى قصص، أي لبنات أو بلاطات مصفوفة في سطر ممتد إلى ما لا نهاية مما يتيح للقارئ فرصة تركها والعودة إليها متى ما توفر له الوقت للقراءة مرة أخرى من دون أن يخل ذلك من انتظام تسلسلها لأنها قصص مرصوصة بجانب بعضها البعض لا يلضمها إلا المكان، وبالتالي لا يؤثر عدم انتظام القراءة في تسلسلها وتذكرها، لأنها لا تشد القارئ من تلابيبه للركض خلف بنية درامية عنيفة، برغم معرفته أن بانتظاره على الصفحات التالية حكايات مختلفة.

وهناك ملاحظة أخرى وهي كثرة الوصف في الرواية، الوصف المسهب في التفاصيل، وأحيانا يكون زائدا عن الحد وعن اللزوم، فما الفائدة المتأتية من وصف مثلا عدد الكنبات ولون الكنبات، وقماش الكنبات، وكم وردة فيها، وكم زر وكم ثقب، وإن كانت كالحة أو منطعجة أو مسحوقة أو مدقوقة... الخ، وصف يمر على القارئ مرور الكرام. والملحوظة الأخيرة، هذه الرواية كشفت لي طرق النصب وعدته وأدواته وأشكاله وأساليبه وناسه المتخصصين بالدجل والحيلة والجلا جلا، وإن كانت بخفة دم ولطف تجعلك تغفر لهم كل الذنوب الناتجة من الفقر ومن ضيق الدنيا عليهم.

وفي النهاية أقول: الرواية رائعة وملاحظاتي آتية من تذوق الروائي الساكن في، وربما لن يشعر بها أي أحد غيري.