كلام مهم يدور في معظم الأحيان همساً، في أروقة ضيقة جداً تنتمي الى المؤسستين العسكرية والسياسية، عنوان هذا الكلام تسليح الجيش اللبناني بحيث يصبح قادراً على الدفاع عن الحدود والسدود البرية والمائية والجوية على حد سواء، وقد يتسع نطاق هذا الكلام ويخرج عن دائرة الهمس الى دائرة التصريح خلال الشهور القليلة المقبلة، بمناسبة طرح موضوع الاتفاق على الاستراتيجية الدفاعية في مؤتمر الحوار الوطني المتوقع عقده برئاسة رئيس الجمهورية ميشال سليمان.
في هذا المجال، هناك افكار واقتراحات عديدة معظمها لا يتماشى مع السياستين الاقليمية والدولية للولايات المتحدة، وبالتالي فهي غير صالحة ولن تعيش طويلاً، نظراً الى القيود التي تضعها واشنطن، وكذلك أوروبا على تصدير السلاح الذي يؤذي إسرائيل، ولو كان سلاحاً دفاعياً بالمطلق. غير أن الاقتراح الجدي الذي لم يجد طريقة الى التصريح، بل الى التلميح، هو العرض الذي قدمته الجمهورية الاسلامية الإيرانية بتسليح الجيش اللبناني بكل ما يحتاجه من سلاح دفاعي وفي مختلف المجالات العسكرية، وقد تناهى الى سمع الولايات المتحدة مثل هذا الاقتراح الذي كان واحداً من عدة أسباب رئيسة دفعت الجنرال بترايوس الى القيام بزيارته المفاجئة والخاطفة الى بيروت حاملاً معه عدة استفسارات ميدانية طرحها أمام المسؤولين اللبنانيين لتقييم الوضع العسكري والسياسي في لبنان، باعتبار أن لبنان بات ضمن مسؤوليات قيادته العسكرية بعد ترقيته من القائد الأعلى للقوات الأميركية والقوات المتحالفة في العراق الى منصب أعلى ومسؤوليات أكبر.استناداً الى مصدر عسكري لبناني رفيع المستوى، فإن بترايوس «نصح» بعدم إثارة موضوع استعداد إيران لتسليح الجيش اللبناني، معتبراً إياه أنه غير جدي، وأنه عبارة عن دعاية إعلامية تستفيد منها طهران دون أن تؤدي الى نتائج ملموسة في نهاية المطاف. وعندما قيل لبترايوس بصيغة التساؤل ما معناه: هل إن واشنطن مستعدة لتلبية متطلبات تسليح الجيش اللبناني وفي حده الأدنى؟ قال: هذا الموضوع شائك ومعقد ونحن على استعداد للنظر في الطلب اللبناني عندما يقدم إلينا بصيغة رسمية. ولم ينس بترايوس أن يذكّر محاوريه اللبنانيين من الضباط بوجود قرار اتخذه الكونغرس الأميركي يمنع بالمطلق تقديم أي مساعدة عسكرية، لأي بلد في منطقة الشرق الأوسط، سواء عن طريق الهبات أو الشراء، طالما أن هذا السلاح يمكن أن «يؤذي» الدفاعات الإسرائيلية. «لكن هناك طرقاً ووسائل مختلفة من شأنها أن تساعد لبنان دون أن تعرّض السياسة الخارجية الأميركية الى الوقوع في مطبات خطرة». نقلاً عن دبلوماسي أميركي رافق بترايوس في جولته السريعة لعدد من المسؤولين اللبنانيين. في هذا المجال، قال لي الضابط اللبناني الرفيع المستوى إن ممثلي بترايوس في السفارة الأميركية في بيروت أشاروا الى «المساهمة الفعالة» التي قدمتها واشنطن خلال معارك الجيش في نهر البارد. هذه المساهمة اقتصرت على الإسراع بتلبية متطلبات المعركة من الذخيرة، في الوقت الذي أوشكت هذه الذخيرة على النفاد. وفي حالة معينة نفدت الذخيرة، مما اضطر الجيش الى إيقاف إطلاق النار الى حين وصولها قادمة من مصر ومن الأردن. أضاف الضابط: كان لنا تجربة سيئة للغاية مع هذه الذخيرة خصوصا المستوردة من مصر. فبالإضافة الى غلاء أسعارها التي بلغت في بعض الأحيان خمسة أضعاف ثمنها الحقيقي المتعارف عليه، فإن بعضها كان قديم العهد بحيث انفجر عند إطلاقه مما أدى الى تدمير السلاح وإصابة عدد من الجنود اللبنانيين بجروح خطيرة أدت في بعض الحالات الى موت بعضهم. «وبالرغم من ذلك فقد واصلنا استيراد الذخيرة من مصر ومن الأردن لأنه كان المصدر الوحيد المتوافر»، بينما كان بإمكان الولايات المتحدة أن تساعدنا بذخيرتها الأميركية الحديثة عن طريق منحه «هوية دولة أخرى» كما كانت تفعل مع إسرائيل خلال فترات الحروب العربية العديدة، ومازالت واشنطن تتبع هذا الأسلوب الى يومنا هذا عندما تضطرها الظروف السياسية الى إخفاء هوية سلاحها.أما قصة العرض الإيراني بتسليح الجيش اللبناني الذي لم يكشف الستار عنه بشكل واضح الى الآن فقد بدأت في العام 2003، وبالتحديد بعد احتلال القوات الأميركية للعراق بعدة أشهر. في ذلك الوقت كانت واشنطن وطهران تعيشان «شهر عسل» سياسيا وعسكريا حيث كان هدفهما المشترك هو الخلاص من صدام حسين (لم يكن صدام قد اعتقل بعد) ومن بقايا خلايا حزب البعث المدججة بالسلاح. المبادرة جاءت من طهران وخلال زيارة وزير دفاعها آنذاك شمخاني إلى لبنان على رأس وفد عسكري لبحث إمكان التعاون في مجال تقوية الجهاز الدفاعي اللبناني. الوفد العسكري الإيراني ضمّ عسكريين خبراء يمثلون مختلف مصانع الأسلحة والعتاد الحربية في الجمهورية الإسلامية. استقبل الوفد في بيروت وزير الدفاع اللبناني الأسبق السفير محمود حمود، والزيارة رغم طابعها السري فإن شمخاني قال في أحد الاجتماعات المغلقة إن «طهران مستعدة لتقديم كل ما عندها في المجال الدفاعي الى الجيش اللبناني بسعر الكلفة وربما دون مستوى ذلك». وذهب شمخاني في صراحته بعيداً عندما قال ما معناه: «نحن نعرف الوضع الاقتصادي اللبناني والقدرة المالية للحكومة التي تحاول أن تقف على رجليها بعد مأساة الحرب الأهلية». وانطلاقاً من ذلك أعطى أحد مرافقيه مثلاً عن الكلفة فقال إن المصانع الإيرانية تنتج مختلف أنواع الصواريخ القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى. إن إنتاج صاروخ واحد يكلفنا مثلاً ألف دولار، بينما سعره في السوق العالمية الرسمية عشرة أضعاف. «هذا إذا تمّ العثور على من يبيعكم». وأخذ شمخاني الكلام فقال ما معناه: إن الجمهورية الإسلامية انطلاقاً من مبدأ مقاومة العدو المشترك إسرائيل لا تحسب أي حساب للكلفة المالية. وهناك طرق عديدة لمعالجة الموضوع المالي دون تحميل الخزينة اللبنانية أعباء آنية وسريعة. هناك مبدأ القروض دون فوائد وعلى المدى الطويل، وهناك أيضاً الهبات، وإن الجمهورية الإسلامية مستعدة للتعامل بهذين المبدأين معاً.الوفد اللبناني فوجئ بهذا «العرض السخي» لكنه لم يربط نفسه بأي وعد. وانتهت الاجتماعات بدعوة طهران لفريق عسكري لبناني صاحب الاختصاص للقيام بزيارة ذات طابع سري للاطلاع على مصانع إنتاج السلاح والعتاد، وكان من المفروض تلبية الدعوة في السنة ذاتها أي في نهاية 2003، لكن الوضع السياسي الداخلي اللبناني المرتبك جداً أفسح المجال للحكومة اللبنانية بوضع هذا الأمر على الرفّ. لكن أعيدت إثارته في العام 2004 حيث تمّ تشكيل وفد عسكري لبناني برئاسة وزير الدفاع آنذاك عبدالرحيم مراد وتمت الزيارة في السنة نفسها، وفي إحدى قاعات الاجتماع الملحقة بدائرة التصنيع العسكري الإيراني، شرح الضابط الإيراني لزملائه اللبنانيين كل شاردة وواردة عن تكنولوجية الصناعة العسكرية الإيرانية وقدرتها على مباهاة الصناعات الغربية. هذا الشرح استغرق ساعتين وفي الختام قال الضابط الإيراني الكبير ما معناه: الآن القرار لكم ولكنني لست متفائلاً أن لدى حكومتكم الجرأة الكافية لقبوله، في العام 2005 اغتيل رفيق الحريري ودخل لبنان في دائرة عنف لم يخرج منها الى اليوم، وكذلك دخل العرض الإيراني في مرحلة التناسي والنسيان الى أن أفاق من «الكوما» COMA نتيجة إبرة تنبيه إيرانية الصنع إثر فتح ملف سلاح حزب الله وتقوية القدرة الدفاعية للجيش اللبناني والاتفاق، عبر حوار وطني موعود، على استراتيجية دفاعية شاملة عنوانها الرئيس تسليح الجيش اللبناني، مما دفع الى الاعتقاد أن موضوع العرض الإيراني قد يطرح على طاولة الحوار الوطني.قمتُ بجولة استقصائية شملت عدداً من ضباط القيادة العسكرية اللبنانية حيث أكدوا صحة المعلومات المنشورة أعلاه. لكن في الوقت نفسه قال لي واحد من كبار هؤلاء الضباط ما يلي: «صحيح أن إيران عرضت أخيراً تزويدنا بشبكة دفاع جوي بالإضافة الى الأمور الأخرى. لكن العرض بقي شفهياً». وبانتظار ورود العرض الكتابي. يبقى الموضوع برمته كلاما... بكلام. * كاتب لبناني
مقالات
عرض إيراني لتسليح الجيش اللبناني
27-08-2008