ثرثرة
الجميل في بيروت، أنها مدينة كل شيء واللاشيء، مدينة الذكاء والغباء في آن، مدينة الغبار والدم والأرواح والمتعة والخرافة والحداثة، وهي وإن وصفت المدينة الوسيطة التي تنتج ثقافة وتطلق الكثير من الشخصيات الأدبية وحتى الفنية، لكن في المقابل يمكن للمرء أن يلحظ ظاهرة الأمية والإنحلال في الوسط الثقافي، «مثقفون» في الواجهة لا يقرأون كتاباً ولا يتابعون حدثاً ثقافياً، ويغرق كثير من المنابر الفكرية في الإخوانيات والمشاريع الخاصة، وتزايد أقلام ساذجة على «حزب الله» في شعارات المقاومة ضد إسرائيل، وهلم جرا.
« الثرثرة» اقوى من الثقافة في بيروت، أقوى من الشعر، أقوى من الرواية، الضجيج أشد وقعاً من جوهر المعاني والمفردات. مجالس النميمة في المقاهي، وإن خفتت في السنوات الاخيرة، فهي مثل نشرات الاخبار التحريضية، يحتاج رواد المقهى إلى ضحية للفتك بها من خلال «الخبريات» المضحكة، هذا هو مفتاح التسلية في أوقات الضجر، وفي حديث المقهى المبدأ السائد «يوم ليك ويوم عليك» كما تقول المطربة التونسية الراحلة ذكرى في أغنيتها. الثرثرة حاضرة بقوة في الكواليس ولكن لا يجرؤ معظم المنابر الثقافية على نقل الواقع الثقافي الحقيقي على صفحاته، ثمة تسوية تشبه التسويات بين الطوائف اللبنانية، ثمة زواج مصلحة بين رواد الثقافة. يحتج بعض الشعراء لأن المجلات الأدبية الفرنسية لا تهتم بالكتب الشعرية ولا تكتب عنها، ربما كان عليهم أن يرفعوا القبعة لأن المجلات تحترم الشعر بذاته، والأرجح أنها تدرك أن الشعراء ليس لديهم أي جديد لتقديمه فتحجب النظر عن كتبهم الجديدة. كذلك يحتج الشعراء لأن جائزة نوبل لا تمنح الى الشعراء إلا نادراً، ليس الاحتجاج إلا من باب «عصبية الوهم». تصيبني العصبية حين أفتح ديواناً جديداً لأحد الشعراء، أقول في قرارة نفسي أنني أحب الشعر(!!) ولكن حين أحاول قراءة ما يصلني من كتب شعرية، أشعر أن بعضها أو معظمها يستفزني، أشعر بالحسرة على الأشجار التي أتلفت لطبع الكتب، حتى القصائد التي كتبتها يوماً، حين أعود الى متابعتها أضحك على نفسي، أقول إن الشجرة اجمل من الكتابة عن الشجرة، والمرأة في الحياة أجمل من المرأة في الشعر، وما يفعله الشعراء هو أنهم يحنطون المرأة في الكلمة. ثمة من يكتب عن شاعرات أو روائيات من دون أن يقرأ نصوصهن، يكتب عنهن لأنهن أناث فحسب، لأن الجسد أقوى من الكلمة، يكتب عنهن كأنه يشاهد هيفا وهبي أو إليسا أو سائر المغنيات، طيف الأنثى يجعل الرجل ينتج الكلمات الخادعة والمضللة والمبجلة، إنها نقطة الضعف التي ترهق الكثير من الكتّاب، تجعلهم يجلسون في خندق الكتابات الرديئة أو تجعلهم في أسر النصوص النسوية التي باتت الى حد ما نصاً واحداً، من يراقب وقع الأنثى في الوسط الثقافي يشعر بالصدمة، الأنثى قوية في الوسط الثقافي ربما لأن الكتابة أنوثة بذاتها. ثمة من يكتب عن الشاعرات أيضا كأنه ذئب كاسر، يدوّن كلماته بعدوانية من يريد أن يقتل الآخر من خلال الكلمات. ثمة من يقول عن نفسه: «انا شاعر ملعون»، وهو من دون شك ولد وملعقة الذهب في فمه، صفة «اللعنة» جميلة بالنسبة إليه لأنها مستوردة فحسب.