تخلت روسيا عن «مستعمراتها» المكلفة لها في شرق أوروبا ووسط آسيا، لكنها لم تتخل بطبيعة الحال عن مكانتها وكرامتها ولابد من مراعاة ذلك إذا أريد لها أن تثبت كقوة بنّاءة في المجتمع الدولي. وقد قررت روسيا أن تصبح كذلك، وعلى الجميع مساعدتها في ذلك، حيث غطت أصداء الحرب ضد جورجيا على قرار حكومتها بتحويل موسـكو إلى مركـز مالي عالمي ضمن «أولويات» اقتصادية أخرى تختصر حقيقة التوجّه الروسي.

Ad

كم هي المظاهر والأشكال والمسميات خادعة في كل شيء بما في ذلك السياسة... بل وخصوصاً في السياسة!

«انهيار الاتحاد السوفييتي»!... كان عنواناً مثيراً وصارخاً في حينه... ولكن في حقيقة الأمر هل هو «انهيار الاتحاد السوفييتي حقاً ؟!»

الأمر ببساطة، أن روسيا تخلت عن «مستعمراتها» السابقة في آسيا الوسطى وعن مناطق نفوذها في شرق أوروبا... وكانت تكلفها كثيراً وتفرض عليها أعباء باهظة.

طبعاً الفوارق ليست يسيرة بين تخلي بريطانيا وفرنسا في وقت أسبق عن مستعمراتها، وتخلي روسيا بالذات عما نعتبره «مسـتعمرات» وتصوره العالم بأنه «انهيار» الاتحاد السوفييتي! فالجغرافيا أسهمت إسهاماً كبيراً في «تغطية» تلك الفوارق. كانت روسيا تتمدد على مدى أجيال في جوارها الآسيوي بشكل طبيعي لا يوحي للآخرين والعالم بأن ثمـة احتلالاً أجنبياً لتلك المستعمرات كاستعمار بريطانيا- مثلاً- للهند وغانا حيث الأولى بعيداً في آسيا والثانية بعيداً في إفريقيا أو استعمار فرنسا للجزائر والهند الصينية حيث الفارق متشابه مع الحالة البريطانية ومفارقاً للحالة الروسية.

كما أسهمت الإيديولوجيا مع الجغرافيا منذ الثورة الشيوعية في تغطية تلك الفوارق، بل طمسها. ففي العهد القيصري كان ثمة اعتراف ضمني وتحسس عالمي بأن تلك البلدان الآسيوية تحتلها روسيا... أما عندما جاء لينين عام -1917 وكان «سوق» المستعمرات في ذلك الوقت رائجاً لدى الدول الأوروبية المختلفة وروسيا منها- فإنه في ظل الإيديولوجيا الشيوعية والإخاء الأممي أوجد مبرراً «أخلاقياً» لاستمرار سيطرة روسيا على تلك المستعمرات وضمن مواجهتها لقوى الاستعمار الذي اعتبره لينين للمفارقة العجيبة «أعلى مراحل الرأسمالية»!

ولم يكن الخطاب الصيني الماوي ضد «الهيمنة» في عقود تالية خطاباً دعاوياً محضاً، بل كان توصيفاً أيضاً لواقع الحال... واستمر الحال كذلك إلى أن بدأ الروس يحسون بالعبء الباهظ- اقتصادياً وعسكرياً- لتبعية تلك المستعمرات الآسيوية وشعوبها لهم، وفي ظل اعتبارات إيديولوجية تفرض عليهم «أخلاقياً» مساواتهم تقريباً في أنواع التعامل المختلفة.

كان لابد إذن من «تفكيك» الاتحاد السوفييتي وتخلص روسيا من تلك «التركيبة» التاريخية- الاستراتيجية التي أخذت ترهقها مثلما أحست بريطانيا بإرهاق تبعية الهند لها وأحست فرنسا بإرهاق تبعية الهند الصينية... إلخ.

وليس مصادفة أن روسيا تخلت عن الإيديولوجيا الشيوعية في اللحظة التاريخية ذاتها التي تركت فيها تلك المستعمرات الآسيوية ومناطق النفوذ في شرق أوروبا التي هيمنت عليها كجزء من «مكاسبها» في معارك الحرب العالمية الثانية ذلك أن «المبرر الوظيفي» لتلك الإيديولوجيا قد تلاشى تاريخياً، ولم تعد روسيا تستفيد منه شيئاً حيث رأت أن من مصلحتها القومية انتهاج الرأسمالية واتباع اقتصاد السوق. وكان الأمر في بدايته أقرب ما يكون إلى الرأسمالية التقليدية البدائية التي تخطاها العصر.

إذن فما شاع في الأوساط العالمية بأنه «انهيار الاتحاد السوفييتي»، هو في واقع الأمر قرار روسي قومي طوعي بتفكيك الرابطة السوفييتية الإيدولوجية وتحرر روسيا الجديدة منها.

غير أن المنابر الإعلامية الدولية المعادية لتلك الإيديولوجية راقها تصويـر الأمر على أنه «انهيار» لبعبع الاتحاد السوفييتي وما تلا ذلك من تداعيات وتنظيرات شغلت أكثر ما شغلت المثقفين العرب رداً ودحضاً لها.

واليوم إذ تتضح للعالم، بما في ذلك الغرب الأوروبي والكندي، سلبيات القطبية الأحادية، فإن عودة روسيا القومية المتجددة إلى الساحة الدولية تبدو موضع ترحيب حتى لدى بعض الدوائر الأميركية، بل إن الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما له موقف معلن برفضه عزل روسيا، وضرورة التعامل معها إيجابياً؛ وسبب هذا الترحيب هو قناعة الكثيرين بأن روسيا لن تعود إلى سياسة «الحرب الباردة» بعد صراع القوقاز والحرب مع جورجيا والمبارزات الكلامية مع واشنطن، فقد اتضح من مؤشرات عدة أن:

1) روسيا لن تعود إلى سياسة « الحرب الباردة « بعد حرب جورجيا لسبب أساسي، وهو أنها قررت، بعد التخلص من الإيديولوجيا الشيوعية والنظام السوفييتي، أن تصبح قوة رأسمالية متطورة تسابق رأسماليات الغرب، وهي لن تضحي بهذا المسار المصيري المستقبلي لأي سبب. فالحرب الباردة ستدفعها من جديد، إلى سباق التسلح مع الغرب الذي أرهق الاقتصاد السوفييتي وأطاح في النهاية بالقوة السوفييتية؛ كما أن مثل هذه المواجهة ضد الغرب ستحرمها من المساعدات التقنية اللازمة لتطورها الرأسمالي من الولايات المتحدة وأوروبا. (خصوصا في إنتاج البترول).

ويصب القرار الروسي بالانسحاب المبكر من جورجيا، ولو جزئياً، ضمن هذا الاتجاه التصالحي، وذلك من أجل عودة روسيا عضو بناء في المجتمع الدولي، حيث نلاحظ أنه حتى رئيس جورجيا يدعو إلى «عدم طلاق نهائي» مع روسيا؛ (وإن كان من المتوقع رؤية بعض التصلب بعد الحرب الدامية).

2) إذا صح هذا التحليل، فإن روسيا لا يحتمل أن تدخل في مواجهات ضد أميركا والغرب في الخليج العربي أو غيره. وأن دعمهـا لإيران لن يتجاوز سياستها الحالية في العقود الأخيرة، (ما لم يجبرها الغرب على ذلك).

3) غير أن القوى الدولية الفاعلة كالولايات المتحدة والدول الأوروبية مطالبة مع ذلك بمراعاة الحساسية الروسية، وإفساح هامش لحرية الحركة الروسية في العالم، والتصرف مع روسيا كقوة عظمى في العالم لها الحق في «مجال حيوي» ملاصق لها. ولا يبدو إعلان، بعض الدول الغربية، بضم جورجيا إلى حلف الأطلسي، عاملاً مساعداً.

***

لقد تخلت روسيا عن «مستعمراتها» المكلفة لها في شرق أوروبا ووسط آسيا، لكنها لم تتخل بطبيعة الحال عن مكانتها وكرامتها ولابد من مراعاة ذلك إذا أريد لها أن تثبت كقوة بنّاءة في المجتمع الدولي. وقد قررت روسيا أن تصبح كذلك، وعلى الجميع مساعدتها في ذلك، حيث غطت أصداء الحرب على قرار حكومتها بتحويل موسـكو إلى مركـز مالي عالمي ضمن «أولويات» اقتصادية أخرى تختصر حقيقة التوجّه الروسي.

وإذا كانت موسكو قد رحبت بالرئيس الأميركي المنتخب وتطلعت إلى فتح صفحة جديدة من «العلاقات الطيبة» مع الولايات المتحدة، فإنها فضلت أن يأتي ذلك من موقع قوة بإعلان نصب صواريخ مضادة للدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا في اليوم ذاته... إنه «غصن الزيتون بيد والبندقية باليد الأخرى»... والأرجح أن ذلك ما سينطوي عليه النهج الروسي الجديد في التعامل الدولي، خصوصا مع القوى العظمى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.

* مفكر من البحرين