ما كان من الممكن أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، لو أن دارفور لم تكن بيتاً مشرعة أبوابه أمام لصوص الأرض كلها، ولو أن الخرطوم احتضنت شعب هذا الجزء من السودان، وتعاملت حتى مع بعض المسيئين والمغرر بهم من أبنائه معاملة الأم الحنون مع ابنها المشاكس والضّال.«يداك أوكتا وفوك نفخ»... هذا الكلام يجب ألا يُقال الآن للرئيس السوداني عمر البشير، لأنه سيُفهم على أنه شماتة. ولكن على أي حال يجب أن يقال في الحال العربية العامة، وذلك لأن بعض المسؤولين والقادة العرب مازال، رغم أن القرن الحادي والعشرين قطع قرابة ثمانية أعوام من عمره، يتصرف كأنه في العصور الوسطى عندما كان الحاكم يتصرف على أنه ظل الله على الأرض، وأن «شعبه» مجرد قطيع من الأغنام يهشه بعصاه ويوجهه حيثما يشاء، ويذبح منه ما يريد ذبحه، ويعفو عمن يريد العفو عنه... والله غفور رحيم!.
في ذروة سطوته وصولجانه، كان صدام حسين مصاباً بجنون العظمة. وقد وصل به «العُصاب» حتى حدود الاعتقاد، الذي لا يُناقَش ولا يستطيع أحد مناقشته فيه، أنه مبعوث العناية الإلهية وأنه «يعزُّ من يشاء ويذل من يشاء»، فافتعل حروباً فاشلة، وأزهق أرواحاً بريئة من الشعب العراقي الذي من المفترض أنه شعبه، وبالألوف، وكانت النتيجة أنه عُلِّق يوم عيد الله الكبير على حبل المشنقة، وبالطبع فإن يديه «أوكتا وأن فاهه نفخ»... وهذا هو جزاء الظالمين!.
ليس تحاملاً على عمر البشير، وهو رئيس عربي على كل حال، ولكن الآن وقد «وقعت الفأس في الرأس»، فإنه لابد من الإشارة إلى أن هذا النظام الذي يتربع على قمة هرمه، هو محصلة انقلاب عسكري تحالف في تنفيذه مع السيد حسن الترابي الذي مالبث أن اختلف معه ووضعه في غرف الأشباح التي كان وُضِع فيها الصادق المهدي الذي كانت قد انتقلت إليه السلطة بالوسائل الديمقراطية، عبر مرحلة سوار الذهب الانتقالية، بعد ليل طويل من عهد أمير المؤمنين جعفر النميري الذي انكشفت في عهده الميمون فضيحة نقل «الفلاشا» الإثيوبيين إلى فلسطين المحتلة.
لا نقول هذا للرئيس عمر البشير، فهو رئيس عربي على أي حال، وهو رئيس الشعب السوداني الذي هو أكثر الشعوب العربية تسامحاً وسماحة وطيبة وبعداً عن العنف ومحبة للآخرين، ولكن هذه هي عبر التاريخ إذ عندما بكى عبدالله الصغير آخر ملوك الطوائف ملكه المضاع أمام أمه قالت له:
«إبكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثـل الرجال»
إلى أن أكلها الإهمال وتسلطت عليها عصابات «الجنجويد»، كانت «دارفور» مستودع الرجولة الذي زوّد الجيش السوداني منذ الاستقلال بخيرة ضباطه وأفضل جنوده. وكان يجب أن يؤخذ هذا بعين الاعتبار قبل أن تصبح الأمور: «فالج لا تعالج»، وقبل أن يتورم المأزق على هذا النحو، إذ باتت تدور هناك على تلك الأرض الصحراوية العَطِشَة والجائعة- التي يختبئ تحتها بحر من الذهب الأسود- لعبة أمم لم تصل إلى نهاياتها بعد.
ما كان من الممكن أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، لو أن دارفور لم تكن بيتاً مشرعة أبوابه أمام لصوص الأرض كلها، ولو أن الخرطوم احتضنت شعب هذا الجزء من السودان، وتعاملت حتى مع بعض المسيئين والمغرر بهم من أبنائه معاملة الأم الحنون مع ابنها المشاكس والضّال، ولو أن النظام لم يلجأ إلى العقوبات الجماعية، ولو لم يعاقب «الطائع» بجريرة «العاصي»، ولو لم يترك زعــران «الجنجويد» يتغنون بإزهاق أرواح الناس ونهب أموالهم والاعتداء على أعراضهم وحرماتهم.
يجب أن يُستَنفر القادة والمسؤولون العرب ويقفوا إلى جانب رفيق دربهم الرئيس عمر البشير، فالمثل يقول: «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»، وإلقاء القبض عليه، لا سمح الله، سيكون سابقة ستأخذ في طريقها كثيرين من الذين بيوتهم من زجاج والذين ظنوا في لحظة من لحظات جنون العظمة أنهم هم الذين بأيديهم قرار الحياة والموت، وأنه ليس بإمكان أحد أن ينظر إليهم من طرف عينه إن هم اتخذوا قراراً بتفجير مَنْ لا تتطابق مقاساته مقاساتهم بسيارة مفخخة!.
لابد من الوقوف إلى جانب البشير... وهذا شيء طبيعي، وهو ضرورة من ضرورات التضامن العربي المفقود. لكن لابد أن يفهم الرئيس السوداني ويفهم المتضامنون معه أنه «ليس في كل مرة تسلم الجرة»، وأنه من غير الممكن الاستمرار في هذه الأوضاع السودانية المتفاقمة بهذه الطريقة، إن السودان يتمزق ولابد مـن مراجعة سريعة تعيد الوحدة الوطنية إلى البلاد... وهذا لا يمكن أن يتم بحشد المتظاهرين الذين يُفرَضُ عليهم أن يرفعوا قبضاتهم عالياً وفي أطرافها «شواهد» منددة متوعدة!.
* كاتب وسياسي أردني