استقالت الحكومة وننتظر قرارات كبرى في الساعات المقبلة، وبذلك نكون قد طوينا صفحة من صفحات تاريخ الكويت، وحالة التأزم الملازمة للواقع السياسي للبلد منذ 1962، وتحديداً منذ صدور الدستور، تلك الوثيقة التي كانت بمنزلة التسوية التاريخية التي كان يمكن الحصول عليها في حينه، وارتضينا بها كمرحلة انتقالية من الحكم العشائري إلى الدولة الحديثة في غضون الاستقلال، لبلد يشكل أغلبيته سكان مهاجرون على فترات متقاربة في مدينة ساحلية مهنتهم الأساسية السفر والغوص والحرف، التي شكلت بدورها هويتهم وثقافتهم.

Ad

صدّقنا في ما بعد أنفسنا، ورحنا نطلق على ما يجري وفقاً لدستور 1962 بـ«ديمقراطية»، وهي مجرد صيغة تسوية مبدئية للمشاركة الشعبية في إدارة شؤون البلد بين الأسرة الحاكمة والشعب، نتيجة مطالبات تاريخية، وذلك باعتراف ضمني من معديه وممن صاغوه، وما يثبت ذلك أنهم نصوا في مذكرته التفسيرية على مراجعته بعد خمس سنوات من صدوره، وهذا ما لم يحدث، فالديمقراطية في جوهرها وصميمها هي تداول السلطة وهو غير المتحقق وفقاً لدستور 1962.

السّلطة كانت تعلم أن الهدف التالي من دستور 1962 هو تقليص سلطاتها وتحقيق نهج الملكية الدستورية الذي يحقق تداول السلطة، فتارةً قاومته جهاراً، لاسيما مع حلول انتهاء مدة السنوات الخمس لمراجعته لمزيد من الحريات والمكتسبات الشعبية عبر التلاعب بانتخابات1967، وتارةً أخرى سراً عبر اختراق القوى السياسية وتغيير القوى الاجتماعية والتحالفات السياسية.

ووجدت السلطة لاحقاً ضالتها في التيارات الدينية فتلقفتها ورعتها، وتحديداً «الإخوان المسلمين» ليلعبوا نفس لعبتهم التي لعبوها في كل الدول التي احتاجت إلى خدماتهم لتصفية خصومها، واستغلوا ذلك لتقوية وجودهم ومكانتهم فيها، واستمرت الكويت تشهد فصول هذه المنازلة عقوداً طويلة.

وخلال هذه المنازلة وجهت السلطة ضربات مركزة للقوى الوطنية وفكرها الممتد منذ عشرينيات القرن الماضي، بما تملكه (السّلطة) من ثروة النفط المتدفقة على خزائنها وأدوات الحكم المختلفة، دون أن تجهز عليها تماماً، ولكن أخطاء فترة 1986-1990 التي انتهت بالغزو العراقي، كانت بمنزلة الترياق الذي أعاد إليها الحياة إلى حين، ولكن في بيئة وواقع جديدين لم تتمكن فيهما من إكمال فترة نقاهة مثالية لتسترد فيها عافيتها وكامل صحتها.

فلقد تمكنت القوى الأصولية من البلد، وهي التي تتخذ من الدستور وسيلة لتحقيق مشروعها الأصلي المختلف تماماً عن روحه وفقاً لما تثبته أدبياتها، كما تغيرت التركيبة الاجتماعية أو عدلت هوية البلد بالمهاجرين الأقرب توافداً عليها زمنياً، وبدؤوا يصرحون بتشجيع من تيارات أصولية عن أن ما يريدونه من هوية ونهج حكم يختلف عما تم الاتفاق عليه في دستور 1962، وبذلك أصبحت إمكانية تداول السلطة شبه مستحيلة، وبالفعل شُرع في ما بعد بحملة تعديل القوانين التي تمس الهوية المنفتحه للبلد بغرض نسخه عبر أدوات دستور 1962 نفسه، من منع غير المسلمين من الحصول على الجنسية ومنع الاختلاط في جامعة الكويت وخلافه.

وخلاصة سياق تلك الأحداث تؤكد أن حقيقة الوضع في الكويت هي الصراع الخفي بين الغايات والنوايا المضمرة لقوى متعددة، بين سلطة ترى أنها منحت الشعب حقوقاً في ظروف استثنائية في حقبة الثورات والمد القومي في الستينيات دون تريث، وقوى اجتماعية تقليدية فقدت بعض مواقعها ولم يتبق لها من أدواتها سوى القوة الاقتصادية لتبقيها في الطبقة السياسية، وترفض أن تعود لتلتحم بقاعدتها بشروط جديدة تحيّد بعض مصالحها. وقوى الواقع التي تمثل الأغلبية المستجدة على الأرض، والتي تريد أن تفرض هويتها ومفاهيمها على البلد وتحصل على ما يناسب حجمها من الثروة والسلطة، سواء كان ذلك بشعارات دينية أو وطنية، هذا هو الصراع الحقيقي الذي يمزق البلد، والذي نطلق عليه في الكويت زوراً وبهتاناً «ديمقراطية».