ثلاثة شعراء في واحد
تعرّف كثيرون في الوطن العربي إلى الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1990، هذا إن أحسنّا التقدير. ولعل ذلك ما يفسّر جهلنا وضيق أفقنا الذي ننكره، أو نغضّ الطرف عنه.اقتصرت ترجماتنا إلى زمن قريب على آداب أوروبا وأميركا الشمالية. يظهر ذلك من خلال حديثنا الدائم عن بريخت، وشكسبير، عزرا باوند، ت إس إليوت، جيمس جويس... والقائمة تطول. لكنّ أوكتافيو باث أمر آخر... أدب أميركا اللاتينية برمته أمر آخر. هذا ما تبيّنته من متابعتي المتواضعة لترجمات الكتب الشعرية، التي تصلنا شحيحة. هي عوالم متداخلة من التصوير، تتابع المفردات، المعاني المباغتة، القفلة الصادمة... انفتاح الأفق الشعري إلى أقصى مدى.
نحن بحاجة الى أن نخرج قليلاً من عباءة الآداب الأوروبية، ففي الشرق الأقصى كتابات غنية وبالغة الثراء، وفي أدب أميركا اللاتينية معين من النبع الوجودي والتدفق الإنساني المتنوع، الصادم، والمدهش أحياناً. الشكر كلّه إلى الشاعر والروائي التونسي محمد علي اليوسفي الذي أهدى إلينا شيئاً من قصائد باث عبر ترجمته ديوان «كنت شجرة وتكلمت بستان حروف». يُطلق عليها «القصائد الشرقية» نسبة إلى المشرق، وهي القصائد التي كتبها باث إثر إقامته في الهند واليابان منذ الخمسينات حيث عيِّن سفيراً لبلاده في نيودلهي.يسرد اليوسفي في مقدمة الديوان مواقف طريفة تتعلق بالمعوقات التي واجهها حين حاول الدفع بكتاب «حرية مشروطة»، يضم ثلاث مجموعات شعرية لـ باث، إلى دور النشر العربية. يقول: «لما جاء دور النشر، اكتشفت أن باث شاعر شاب مبتدئ يتوسل النشر على أبواب دور حققت مجداً لا بأس به في هذا المجال «دار ابن رشد، الكلمة، المسيرة...». في الدار الأولى نامت المختارات قرابة العام، وعندما حاولت استرجاعها لم يستطع الناشر الحصول عليها، إلا بعد أن ساعدته تنقيباً وقلباً لأكداس المخطوطات، فوجدناها في الطبقة الأدنى بين الغبار ومخطوطات الشعراء الشبان الذين لم يدفعوا مقابلاً للنشر. لدى الناشر الثاني ظلت ستة أشهر(...) وعرفت أن ناشراً جديداً من العائلة، من الجنوب اللبناني يثق بنا، نحن الذين نثق بباث. صدر الكتاب عام 1983».يمكن القول إن باث ثلاثة شعراء في شاعر. ففي عام 1944 حدث تحوّل كبير في حياته، بحسب «الموسوعة العربية»؛ نتيجة سفره إلى الولايات المتحدة، حيث تعمّق في دراسة الشعر الناطق باللغة الإنكليزية، فكتب قصائد طويلة واستفاد كثيراً من تقنية التوظيف السردي في الكتابة الشعرية. وهو ما بدا واضحاً في ديوانه «الحرية بضمانة الكلمة». وتمثّلت المرحلة الثانية في إقامته في فرنسا بين 1946-1951 فانخرط في غمار «السوريالية» وهي الحركة التي أحس بأكبر تآلف روحي وجمالي معها. أما المرحلة الثالثة فتمثلت في ذهابه إلى اليابان حيث اكتشف قصيدة «الهايكو». تتمتزج هذه التجربة مع فترة إقامته في الهند، وهي التجربة التي تعرّف خلالها باث الى روح «البوذية» وإرهاصاتها الكثيرة.