هناك مدن يصعب نسيانها، وهي تنهض مثلما تنهض أحلام منتصف الليل، ومن هذه المدن التي لها هذه الصفة، مدينة طنجة التي لا يمكن الحديث عنها إلا بحضور عاشقها الكبير محمد شكري. كنت قد عرفت شكري عن قرب في أوائل الثمانينيات عندما كنت مقيماً فيها على مدى خمسة أو ستة أعوام متتالية.
في تلك السنوات كان ليل طنجة يتفتح مثل ازهار بيضاء، لكن طنجة مثل صوت ساحرة عوليس لا يخضع لقواعد الرحلة الاوديسية كما يقول شكري في الكتاب الذي وضعه عن بول بولز، والذي وصفه شكري مرة بأنه أبوالهول بعد أن عاش فيها هذا الكاتب الاميركي أكثر من نصف قرن.في رواية «وجوه» يكتب محمد شكري ما يشبه المرثية، مرثية عن طنجة وعن وجوهها، ومعالمها القديمة التي عرفها، يكتب كما لو كان يودّع المدينة التي خذلته في سنواته الاخيرة، دون أن يكون هو نفسه قادراً على التخلي عنها أو نكران جميلها عليه.ليل طنجة الذي كان بالامس القريب يحتفظ ببعض شبابه وشيء من روح جماله أصبح اليوم «هرماً، مترهلاً، قبيحاً، لن اتنكر لعشرته القديمة لأنني مدين له بالكثير في الزمن الذي كان فيه عضدي وحليفي، في زمن العيش القاسي المريب. لن أنكر جميله لكنني لن اتواطأ معه اليوم في بشاعة جرائمه».ورواية «وجوه» المقسمة الى عدة فصول ترتكز في الاساس على ناظم واحد هو الكاتب نفسه، إما عبر استعادة خزين ذاكرة، ماضية أو عبر الاحداث الحاضرة، والكتاب في مجمله لا يخلو من تأملات واسئلة في معنى العيش ومعنى الكتابة. وهو غالباً ما يستحضر ويستعين بمقولات أو شذرات من كتّاب وشعراء ومفكرين مختلفين، من نيتشة الى اندريه جيد، امبرتوايكو، الى الكسندر دوما، سيوران إلى جان جينيه وهكذا. ثم أن شكري ينتخب ايضاً أقوالاً وجملاً توافق هواه ومزاجه وفكرته ومايريد أن يرويه في سياق الاحداث.في هذا الكتاب يأخذ شكري من «اسم الوردة» لامبرتوايكو شذرة، حول مفهوم الكتاب والكتابة «لم تؤلف الكتب لنؤمن بما فيها ولكن لنتأمل، فأمام الكتاب يجب ألا نتساءل عما يقول وانما عن ماذا يريد أن يقول».تتقاطع وجوه شكري في الحياة على نحو عابر، محكومة بالصدفة احياناً. بعض هذه الوجوه يتم استعادتها من زمن بعيد، أو استعادة شبابها وحياتها الغابرة.عندما ظهرت سيرة محمد شكري «الخبز الحافي» أثارت صدمة ورجة في الوسط الثقافي العربي. وهكذا اكتشف شكري (فجوة) لم تكن قد ملئت في السيّر السابقة.بالاضافة الى كشف وتعرية حياتهِ اكتشف أهمية صوت المهمشين الذي كان غائباً. ولم يتوقف شكري عند هذا الحد انما دفعه حماسه الى كتابة الجزء الثاني من سيرته «الشطار».لقد وجد شكري صوتاً مضاداً للسيرة الرسمية، وانفتح مجال الكتابة لديه الى ما يشبه الاعتراف انطلاقاً مما عاشه وخبره في الحياة.ورواية «وجوه» لا تختلف كثيراً عن مجمل كتاباتهِ، فقد أراد أن يروي عن الآخرين انطلاقاً من ذاتهِ، لذلك يبدو في «وجوه» الآخرين شيء من «وجوه» شكري الحياتية، المتعددة.حكايات شكري، حياته وكتاباته كثيرة، لكن هذا يتطلب نزهة أخرى في الحديقة.
توابل
وجوهُ شكري وطنجة
03-12-2008