في الجانب العربي ثمة تخوف فكري كبير حيال «العولمة» وشكوك عميقة في نوايا المتحكمين بها، على الرغم من كون العولمة في الأساس نتيجة تقدم علمي في مجال الاتصالات والمعلومات... تقدم يملك ناصيته ويسيطر عليه ويستخدمه لمصلحته، بطبيعة الحال، منتدى الدول المتقدمة في تلك المجالات، كالولايات المتحدة واليابان ودول أوروبا الغربية. وعندما اكتشفت بريطانيا قوة البخار قبل قرنين واستطاعت استخدامه تقنياً في تسيير السفن الحديثة فأصبحت- لتقدمها العلمي هذا- «سيدة البحار»، وظلت هكذا إلى أن تغلبت عليها الولايات المتحدة بوسائل السلاح الجوي في «الفضاء» فتراجعت طائعة أو كارهة إلى رتبة متخلفة... وهذه «سنن الله في خلقه»... ولن تجدوا لها تبديلا.

Ad

ولكن ماذا عن الجانب الإسرائيلي حيال تأثيرات العولمة على إسرائيل؟ هل العولمة بما تحمله اليوم من تحديات الاختراق والخلخلة للمجتمعات المغلقة عرقياً وإيديولوجياً... ستكون عاملاً مساعداً لاستمرار المجتمع الإسرائيلي على «ثوابته» التي تأسس عليها و»أساطيره» التي يتغذى فكرياً وروحياً منها ويتشدد في تأكيدها من باب عدم الثقة بالنفس.

هل أن انحيازه الشديد نحو اليمين... واليمين المتطرف دليل قوة وعافية؟! لقد سادت المجتمعات العربية نزعة التطرف اليميني منذ هزيمة يونيو (حزيران) 1967، ومن دروس التاريخ فإن الجماعات الإنسانية تلجأ إلى التطرف والعنف عندما يجتاحها الخوف من الآخر وتستشعر الضعف وعدم الاطمئنان إلى مصيرها.

وهل هي «مصادفة» أن يكون طلب وزير خارجية إسرائيل الجديد، شديد التطرف في يمينيته وعنصريته، الإلحاح على المندوب الأميركي- مدعوماً بطلب مماثل من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو– أن يأتي اعتراف العرب والفلسطينيين أولاً بـ»يهودية دولة» إسرائيل، وفي إقصاء واضح لفلسطيني 1948 من مسلمين ومسيحيين؟! وذلك ما عبرت عنه في الواقع تسيبي لفني وزيرة خارجية إسرائيل السابقة وزعيمة «كاديما» في البرلمان الإسرائيلي الحالي، الأمر الذي يدل على أن الفارق جد ضئيل بين المصنفين «صقوراً» والمصنفين «حمائم» في الكيان «اليهودي».

والرأي الراجح في إسرائيل اليوم: لا تواجه الادارة الأميركية الجديدة في معركة معلنة... اقبل بحل الدولتين- كلاماً- كما قبلت به الحكومة الإسرائيلية السابقة ثم انقضه واقعاً، كما فعلت تلك الحكومة أيضاً في واقع الأمر وسيمدك النزاع الفلسـطيني- الفلسطيني بين «الفصـائـل» بالتبرير المقنع للمجتمع الدولي كله، وليس لواشـنطن وحدها... وكفـى الله «المؤمنين»... يقصدون «المؤمنين» بالكيان اليهودي «النقي» شر القتال مع إدارة أوباما حتى تأتي إمكانية المجابهة الحقيقية... وساعة «العقاب».

هذا هو السائد إسرائيليا اليوم... ولا نستبعد أن تلجأ إلى هذا «التكتيك» الحكومة الإسرائيلية الراهنة... فقد استمرت مفاوضات «السلام» عقوداً طويلة... وستستمر عقوداً أطول! خصوصاً إذا بقيت إسرائيل على حالها... ويبدو أنها باقية على حالها مع انحياز متزايد إلى اليمين المتطرف الرافض للتعايش مع الفلسطينيين والعرب، وتزايد خوف الإسرائيليين من «تطورات» المحيط العربي والإسلامي الذي صار يدفعهم للحفاظ على «سلامتهم» الشخصية... قبل كل شيء.

عام 1981، أي قبل حوالي ثلاثة عقود، كتب ناحوم غولدمان، أحد مؤسسي إسرائيل مقالة نشرتها صحيفة «لو نوﭬل أوبزرﭬاتور» الفرنسية المقربة من الحزب الاشتراكي الفرنسي في بداية حكمة، والمعروف بتأييده القوى لإسرائيل (في عددها رقم 872 في أغسطس 1981- ص 16- 19).

ومن الآراء المدهشة والصادمة لهذا الداعية الصهيوني المؤسس نفيه عن رجال السلطة في إسرائيل- منذ ذلك الوقت- صفة «رجال الدولة» واتهامهم بأنهم في مستوى عمد الأحياء ومختاري القرى، وأنهم لا يستحقون- حسب تعبيره- قيادة «دولة» يعيش فيها عدة ملايين، وتقع في أكثر مناطق العالم أهمية وحساسية.

والمقالة أشمل من ذلك. ويتضح منها أن ناحوم غولدمان- وهو «الصهيوني» المؤسس لم يعد مؤمناً بأن إقامة «دولـة إسرائيل» ككيان سياسي عسكري هو الحل الأمثل للمشكلة اليهودية. وأن ذراعها العسكرية الطويلة نذير بقرب انحلالها, وهو يلخص تاريخها لثلاثين عاماً في ثلاثة فصول متسارعة؛ التأسيس، والازدهار، والانحلال.

وكي لا تصل إسرائيل إلى نهاية الفصل الأخير، فإنه يرى تخليها عن طابعها العسكري التوسعي وإعادتها الأراضي العربية المحتلة، وفك ارتباطها العضوي بأميركا التي لن تدوم قوتها وإعلانها الحياد على الطريقة النمساوية بضمانة القوى الكبرى، وكذلك إنهاء وصايتها على اليهود خارجها وتركهم يندمجون في مجتمعاتهم الراهنة ليتحرروا من عقدة «الولاء المزدوج»، على أن تصبح إسرائيل في النهاية مركزاً روحياً لليهود مقترباً بذلك من فكرة «فاتيكان يهودي».

وقد قام كاتب هذه السطور بترجمة المقالة ونشر ملخصها في حينه، ثم أعاد نشرها في كتابه (العالم والعرب سنة ألفين، دار الآداب، بيروت 1988، ص 31- 35).

وبطبيعة الحال، فإن المؤسسة العسكرية الحاكمة في إسرائيل، لم تستطع التنازل عن امتيازاتها لمصلحة هذه التصورات التي اعتبرتها مثالية «وانتحارية» للغاية من جانب ناحوم غولدمان.

ومازال التراجع في إسـرائيل مستمراً باتجاه الانغلاق التام للمجتمع الإسرائيلي بقوة السلاح. والدعوة اليوم إلى «يهودية» الدولة بمعنى إخراج عرب 1948 ليس تراجعاً فقط بمعيار حقوق الإنسان في العالم، إنما هو نقض لما قبله جيل «بن غوريون» لدى تأسيس إسرائيل بقبول أفراد غير يهود في نطاق المواطنة الإسرائيلية والبرلمان الإسرائيلي؛ وبلا شك فإن الإسرائيليين يدركون ذلك- وهذا ما يزيد خوفهم وقلة ثقتهم بأنفسهم. إن عالمنا يتطور لدرجة أن حليفتهم الكبرى انتخبت رئيساً لم يعرفها قبل سن الثامنة عشر وبلون مختلف، هذا بينما الإنكليز، أكثر الشعوب البيضاء تعالياً في الماضي، يعدون أنفسهم اليوم للخضوع إلى «قادة» من أصول آسيوية، وربما إفريقية، أو مهاجرة!

ويصحو المجتمع الإسرائيلي على مصارحات مؤرخيه أنفسهم، وكان آخرهم وأبرزهم المؤرخ الإسرائيلي «شلو مو ساند» الذي يتحدث في كتابه «متى وكيف اخترع الشعب اليهودي؟» بتأكيد الحقيقة المسلم بها وهي أن اليهود، مثل المسيحيين والمسلمين، تشكلوا من أعراق وقوميات مختلفة. وفكرة «النقاء» الخالص لديهم ظهرت بتأثير القومية الألمانية في القرون الأخيرة، فاخترعوا الشعب اليهودي بـ»أثر جعي» إلى ما سموه بأسطورة مملكة داود «الخرافية» حيث لم يحدث إطلاقا في التاريخ «سـبي» لليهود ولم يذكر في أي مرجع ديني أو تاريخي يهودي. (صحيفة الأهرام:27/12/2008 تلخيصاً لمحاضرة الأستاذ الفلسطيني- الأميركي محمد عبدالعزيز ربيع)

وبعد... هذا ليس «استنجاداً» بالعولمة إنه استنجاد بمنطق الفهم السليم ليستوعب الوعي العربي ما يدور حوله من حقائق، وألا يعيش العرب في «غيتو» العصر الحديث وهم الذين كانت لهم رسالة وحضارة شملتا الإنسانية جمعاء ومعارفها وعلومها.

منطقياً لا يمكن لمجتمع يصر على «يهوديته» بمعناها الحصري وعلى نقائه العرقي المتوارث أن يتعايش مع عصر «عولمي» أطلق رياح التعدد في مختلف الجهات. هذا ببساطة هو «منطق» هذه الأطروحة. وإذا شعرت إسرائيل بتهديد «العولمة»؛ بهذا المعنى، هل ستقصفها بالطائرات، مثلما قصفت أهالي غزة؟!

إن العالم يتغير... وعلى إسرائيل أن تتغير... ولكن ليس في الاتجاه الخاطئ الذي تسلكه حالياً... وهناك نافذة عربية مفتوحة في المحيط من حولها... لكنها لن تبقى مفتوحة للأبد... فهل يريد «الائتلاف» الحاكم في إسرائيل اليوم تشجيع متطرفين على تسلم السلطة في الطوق المحيط؟ وإذا تم الإصرار على «يهودية» إسرائيل، فإنه استدعاء لدعاة «الأسلمة» المتعنتة بالمفهوم المتطرف ذاته!

* مفكر من البحرين