Ad

إن حصر الجهاد في بعده الديني، فضلاً عن أنه يجور على جوانبه الأخرى مثل الجهاد في العمل والعلم وكبح شرور النفس، فهو قد يؤثر سلبا في كل ما يترتب على مبدأ المواطنة في دول فيها أقليات غير مسلمة، ويزداد هذا التأثير بالنظر إلى أن الدول العربية المطلوب منها أن ترفع راية الجهاد أكثر من غيرها.

هناك آفة أصابت توظيف «الطاقة الغضبية» في فهمنا الآني للإسلام، فضيقت الباب أمام تفريغ شحنة الغضب بالاقتصار على حالة الحرب والنضال المسلح، وجعلت من هذا فقط «الجهاد» مع أن النص يتسع إلى ألوان أخرى تمت إزاحتها بحكم واقع مرير جعل هذه الأمة دوما في رباط عسكري، ومثل هذا الوضع جعل الخلاف الفقهي بتاريخيته المعهودة يرشح على تحديد موقف راهن من الجهاد يستوجب التعامل معه عدم الاكتفاء بالبعد الديني في فهمه وتقويمه، وجعل مصالح الناس تتوارى خلف طبقات متلاحقة من تفاسير النصوص الدينية، مع أن هذه التفاسير يجب ألا تتمتع بقدسية وألا يكتسب أصحابها عصمة، فبعضها صادفها الهوى، وبعضها موزع على مصالح وحسابات شخصية وفئوية وطائفية ومذهبية ومختلفة، وجزء منها نزيه مجرد عن الهوى والمصالح، ولا يبتغي إلا مرضاة الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يجب أن يبقى في طور الرأي، القابل للأخذ والرد، ولا يلبس أبدا أي ثوب مقدس.

وترى الحركة الإسلامية المعاصرة أن الجهاد لا يكون إلا من زاوية دينية، ومثل هذا التصور يغفل أن الذود عن العرض والنفس والمال لا يقل قدسية، بحسب مقاصد الشرع، عن الدفاع عن الدين وحفظه ومناصرة المسلم وتأييده، حتى لو جاء الأول بعد الثاني في الترتيب حسبما ذهب الفقهاء، وإذا اتسعت الأهداف وتعصرنت في الوقت ذاته يصبح الذود عن الوطن واجبا مقدسا، ولا يحتاج النهوض به الاستناد إلى نص ديني أو تبرير فقهي، اللهم إلا إذا كان ذلك من قبيل إلهاب الهمة وشحذها، نظرا للدور الذي يؤديه الدين في تشكيل الحالة المعنوية والتعبئة النفسية والمنظومة القيمية للأفراد في مجتمعاتنا.

فالذود عن الوطن دفاع عن تاريخ وحاضر ومستقبل، عن أهل وعشيرة أقربين، عن ذكريات ووجود وتحقق، عن الاستمرار والبقاء في ظل كرامة وعزة. وتقدم السيرة النبوية مثلا ناصعا في ذلك من خلال إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن مكة أحب بقاع الأرض إلى قلبه، وما كان سيخرج منها لولا أجبره مشركوها على ذلك. وقياسا يصبح من حق كل فرد أن يقول إن بلده أحب البلاد إلى نفسه، وبالتبعية فإن الدفاع عنه يبقى واجبا، يكتسب قدسية إذا كان هذا البلد يصون كرامته وحريته، أي يوفر له كل حقوق المواطنة، بمفهومها الحديث، وألا يكون بلده في حال اعتداء على الغير، تفقد الحرب مشروعيتها وعدالتها. ومن هنا جاءت الدولة، بحدودها وسلطاتها واعتبارها أرقى الكيانات الاجتماعية بفعل صيرورة التاريخ وواقع الحال، لتجعل من يموت دفاعا عن بلده «شهيدا» ويأتي جهازها الديني ليقر هذا، ويقول إن مثواه الفردوس الأعلى.

وحصر الجهاد في بعده الديني، فضلا عن أنه يجور على جوانبه الأخرى مثل الجهاد في العمل والعلم وكبح شرور النفس، فهو قد يؤثر سلبا كل في ما يترتب على مبدأ المواطنة في دول فيها أقليات غير مسلمة. ويزداد هذا التأثير بالنظر إلى أن الدول العربية المطلوب منها أن ترفع راية الجهاد أكثر من غيرها، وأقصد بها «دول الطوق» بالنسبة لإسرائيل، يشكل المسيحيون، بمختلف مذاهبهم، جزءاً ذا بال من قوتها الديموغرافية، وهم ينخرطون في صفوف قواتها المسلحة، المنوط بها أن تمارس الدفاع عن الوطن في أعلى صوره، وفي صيغته «المنظمة»، التي تتوافر لها أغلب، إن لم تكن كل، شروط الجهاد، التي اصطلح عليها الفقهاء القدامى، ومن يستدعون ما ذهبوا إليه ممن يتصدون للفتوى وإنتاج الخطاب السياسي داخل الحركة الإسلامية المعاصرة.

إن حركة إسلامية في بلاد نكبت بأنظمة وظروف ورزقت بثروات وموقع جيواستراتيجي جعلها مستهدفة عسكريا بشكل مستمر على مدار التاريخ، كان من الواجب عليها أن تكون قد حسمت خلافها حول مفهوم الجهاد في معناه ومبناه ومقصده، وأضافت في هذا إلى ما خلفه الأولون من الفقهاء، معتمدة على «نص» ترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام تأويله ولم يحجر على عقل في هذا، وعلى مصلحة الأمة المتجددة دوما، والتي تقدم أحيانا على النص، إن كانت هناك ضرورة.

وإذا كان ما سبق يمس قضية الجهاد ضد العدو الخارجي فإن من الضروري أن يتم على التوازي نزع صفة الجهاد عن الممارسات العنيفة المتجاوزة، التي تستهدف المجتمع، حسبما درج العديد من «الجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي»، طيلة العقود المنصرمة. ولقد أقدمت «الجماعة الإسلامية» في مبادرتها الشهيرة لوقف العنف، على هذه الخطوة حين أقرت أن «هداية الخلق إلى الحق هي الغاية الأسمى للدعاة إلى الله... أما الحسبة والجهاد فهما وسيلتان لتعبيد الناس لربهم، ولذا فإن هداية الخلائق مقدمة على الجهاد، إذ إن الغاية مقدمة على الوسيلة، فإذا تعارضت الغاية مع الوسيلة قدمت الغاية... وإنما شرع الجهاد في سبيل الله لدرء الفتنة، فإذا أصبح الجهاد نفسه محدثا للفتنة في الدين، ومانعا لتعبيد الناس لربهم، وصداً للناس عن دعوة الحق، وتخويفاً للشباب من ثمرة دعوة نقية، لم يحقق الجهاد بذلك مقصوده الأسمى، وبذلك تكون هداية الخلائق وتعبيد الناس لربهم هي الأصل، والجهاد فرع عليها، فإذا تضاد الأصل مع الفرع قدمنا الأصل على الفرع».

لا يعني هذا برمته النيل من مكانة الجهاد، فهو، خاصة في ظروفنا الراهنة، ضروري لمقاومة عدو خارجي، يريد اغتصاب الأرض والعرض. كما أنه ضروري لمقاومة الاستبداد، لكن يجب أن يقام هنا من خلال وسائل مؤسسية حديثة، ودون إلباسه ثوب الدين المحض، بحيث يصبح من يقاوم، بكسر الواو، هو «المؤمن» ومن يقاوم، بفتحها، هو الكافر، بل إن المعركة، أو النضال، يجب أن ينظر إليها على أنها محاولة من قبل منحازين إلى العدل والحرية والانتماء والمصلحة العامة، وجميعها قيم يقرها الدين في جلال نصوصه وتعاليمه العظيمة، للتغلب على مستبدين فاسدين يعملون ضد مصلحة الوطن في الداخل والخارج، سواء بقصد، أو بعجز عن اتباع سياسات ناجعة.

* كاتب وباحث مصري