حتى لا تذهب إعادة إعمار غزة هدراً!!
ما إن أعلن وقف إطلاق النار حتى أعلنت «حماس» انتصارها، وانطلقت مسيرات جماهيرية في غزة وتجمعات هنا وهناك احتفاءً بالنصر، وأطل «هنية» من مخبئه الحصين، عبر خطاب متلفز معلناً «النصر الإلهي الرباني» وظهر «مشعل» في الفضائيات وخلفه لوحة خضراء كتب عليها «انتصرت غزة» ليقول: إن المقاومة انتصرت والعدو فشل واضطر للانسحاب من دون أي شروط تقيد المقاومة، وقامت دول عربية وإسلامية بتهنئة «حماس» بالانتصار ودعتها إلى مواصلة المقاومة، والاستعدادات في دمشق على قدم وساق لإقامة احتفالات النصر، القوم فرحون يهللون ويباركون ولكن ذوي آلاف الشهداء والجرحى محزونون.السؤال: لماذا تتظاهر «حماس» بالانتصار رغم أن الوقائع على الأرض تناقضها؟! لذلك هدفان: 1- الهروب المبكر من تحمل مسؤولية نتائج دمار غزة وقتل وجرح وتشريد الآلاف من سكانها، تريد «حماس» تجنب مساءلتها عن سبب استدراجها إسرائيل لشن عدوانها الهمجي، وعجزها عن توفير الملاجئ الآمنة لسكانها الذين تركوا مكشوفين للغارات الوحشية، بينما عناصر «حماس» وقادتها في ملاجئ آمنة. 2- استثمار (إعادة الإعمار) لتحقيق أهداف سياسية انتخابية تضمن فوز «حماس» في الانتخابات التشريعية الرئاسية القادمة.
ولتحقيق هذين الهدفين لجأت «حماس» إلى أسلوبين: سياسة العصا والجزرة، وسلاح التخوين والتصفية، أما جزرة «حماس» فللأنصار والمحاسيب والموالين ولمن يراد شراء سكوته «4آلاف يورو لمن هدم منزله وألف يورو للشهيد» أما عصا «حماس»، فلمن يفتح فمه ويشكك في الانتصار، وأما سلاح التخوين والتصفية فللخصوم المحسوبين على السلطة بتهمة التجسس، إن كل المؤشرات تنبئ بأن «حماس» بعد الحرب ستشدد قبضتها الأمنية بما يؤسس لسلطة استبداد أقسى. من حق «حماس» ومحازيبها وأنصارها وحلفائها أن يحتفلوا بالنصر الإلهي، وللمشايخ أن يدعموها برؤياهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، يجاهد في غزة، تثبيتاً لها، لكن من حقنا أن نتساءل: ما حقيقة هذا الانتصار؟!لنقرأ هذا التقرير الرسمي لجهاز الإحصاء الفلسطيني الذي يقول: إن غزة أصبحت منطقة منكوبة من كل النواحي الإنسانية والصحية والاجتماعية بعد 3 أسابيع من العدوان المتواصل الذي طال كل مناحي الحياة، وقضى على 1320 فلسطينياً وجرح أكثر من 5500 بينهم أكثر من 400 إصاباتهم خطيرة، ودمر العدوان أكثر من 22500 مبنى، وبلغت إجمالي الخسائر 1.9 مليار دولار. لكن هذا التقرير يبدو متواضعاً أمام رؤية شهود عيان صحافيين دخلوا غزة أخيراً ليفاجؤوا بحجم الدمار والخراب الذي يفوق تأثير (تسونامي) بمراحل، إنه أشبه بزلزال قوته 10 ريختر، حول أحياء بكاملها إلى أكوام من الحجارة والحفر، هذا العدوان الهمجي لم يترك شيئاً: البنية التحتية والمباني الحكومية والمنازل والمستشفيات والمدارس بل حتى المقابر التي تطايرت الجثث منها، ولكن ما حدث للحجر يهون بالنسبة لما حدث للبشر من قتل وجرح وتشريد وترويع نفسي رهيب طال كل سكان غزة وحرمهم النوم والاستقرار على مدى 22 يوماً من العذاب والأهوال، مما جعل أحد قادة المقاومة يقول «لقد بلغت القلوب الحناجر» وفي المقابل لم تحقق صواريخ «حماس» الـ980 إلا أضراراً طفيفة في الجانب الإسرائيلي «3 مدنيين قتلوا» وعندما دخل العدوان البربري أسبوعه الثاني في معركة من طرف واحد، وأعلنت إسرائيل الحرب البرية، تفاءلنا بتصريحات قادة الفصائل بأنهم سيزلزلون الأرض تحت أقدام إسرائيل إذا دخلت غزة، وسيأسرون جنودها في حرب الشوارع والأزقة! لكن إسرائيل اجتاحت غزة وتوغلت في عمقها وشطرتها 3 محاور وسوت مبانيها بالأرض وكانت حصيلة قتلاها 10 جنود فقط، ولم يقع لها جندي في الأسر! ودع عنك مبالغات «القسام» بأنها قتلت 80 جندياً إسرائيلياً، فلو صحت- وليتها كانت صحيحة- لقامت قيامة الشعب الإسرائيلي على حكومته، ولانتهزتها المعارضة اليمينية المتطرفة والمتربصة (الليكود) فرصة ذهبية ضد الحكومة، ولطالبت بالتحقيق وأسقطت الحكومة- كل ما خسرته إسرائيل 13 قتيلاً نشرت أسماؤهم وصورهم ورتبهم وأعمارهم- دعونا نتساءل: ما مقايس النصر والهزيمة لدى «حماس» مقارنة بمقاييس كل شعوب الأرض؟! إن موازين النصر والهزيمة لدى البشرية كافة، ومنذ أن خلق الله آدم وحواء واحدة، وهي مدى تحقق الأهداف العسكرية والسياسية المعلنة لكل طرف ضد الطرف الآخر، وواضح أن إسرائيل أضعفت القدرات القتالية لـ«حماس»، وفرضت واقعاً أمنياً جديدا، كما نجحت في كسب استنفار دولي يمنع وصول السلاح إلى غزة، ولكن معيار النصر لدى «حماس»، هو «نجاتها» فحسب، وبقاؤها قوة مسيطرة على غزة ونجاة قادتها، أي أنها تربط معيار النصر ببقاء الحركة والقيادة، وهذا معيار إيديولوجي اخترعه الثوريون التقدميون بعد هزيمة 1967 المنكرة، لتغطية الهزيمة وتضليل الجماهير واستدامة الحكم، إذ قالوا حينها «مادام النظام الثوري قائماً والقائد الزعيم حيا يصهل ويجلجل فإننا لم نهزم» لكنه معيار سقيم، لأنه على مر التاريخ هزمت دول وحركات شر هزيمة وبقيت قياداتها حاكمة، ثم إنه معيار «غير أخلاقي» لأنه يربط النصر ببقاء الحزب والقيادة، ولا يعطي أي وزن لحياة آلاف البشر الذين قتلوا وجرحوا وشردوا، ولا يأبه بدمار الوطن، إنه معيار «غير إنساني» لأنه يهتم بالزعيم والحُكم، أما بقية البشر فهم كالتراب «وكل ما فوق التراب تراب» ومن هنا نفهم استخفاف قادة «حماس» بحجم الكارثة في تصريحاتهم المتكررة مثل «ما خسرناه ضئيل جداً» و«ما حصل في غزة أذى عابر» و«اطمئنوا، المقاومة بخير». إن تجاهل الخسائر البشرية ودمار الوطن لطمأنة الجماهير بأن المقاومة بخير والخسائر قليلة، وبالتالي فإن العدوان فشل، وإن «حماس» قد انتصرت، منطق خاطئ تماماً، أي فخر أو بطولة في بقاء قيادة تحت الأرض بينما الشعب الأعزل يدفع الثمن؟! «حماس» ترى أن دماء الآلاف من الشهداء والجرحى ثمن بخس في سبيل بقائها، ولذلك صرح «هنية» بأنه لن يتخلى عن موقفه ولو أبيدت غزة عن بكرة أبيها، إذ لا قيمة للإنسان عند الإيديولوجيين، المهم عندهم أن يبقوا هم، ثم إنه معيار «زائف» من قال إن إسرائيل هدفها تصفية «حماس»! لم يكن ذلك ضمن الأهداف المعلنة مطلقاً من البداية إلى النهاية، إذ قالت إسرائيل إنها تريد (تغيير الواقع الأمني في الجنوب لتأمين مستوطناتها المستهدفة من صواريخ «حماس») ولذلك تريد إضعاف القدرات القتالية لـ«حماس» لا للإجهاز عليها، إذ لا مصلحة لها في القضاء على «حماس»، ولذلك صرح بيريز (إسرائيل لا تمانع في استمرار «حماس» في الحكم، وحكم «حماس» أو غيرها مسألة فلسطينية داخلية لا شأن لإسرائيل بها).ويبقى تساؤلان مشروعان: الأول: يتعلق بمدى إفادة «حماس» من دروس الحرب، فالخشية أن تصدق «حماس» نفسها في أنها منتصرة، فلا تجري مراجعة جادة لتقييم آدائها العسكري، ومن ثم تتشبث بموقفها الرافض للمصالحة والحكومة الوطنية.والثاني: يتعلق بمستقبل إعادة إعمار غزة والمقدرة بـ2.5 مليار دولار، لأن الخشية هنا- أيضاً- حاصلة من أنه بعد كل هذا الدمار والقتل، مازالت «حماس» تعتقد أنها «منتصرة» وأن ما حصل «أذى عابر»، فما الذي يمنع «حماس» من تكرار «نصرها» مرة أخرى، ومن ثم تعريض إعادة الإعمار لدمار أعظم؟! من حقنا أن نقلق، بل من واجب الدول الخليجية المساهمة بـ90% من أموال الإعمار، أن تطمئن إلى أن ملايينها لن تذهب سدى بسبب مغامرة أخرى غير محسوبة، أو استدارج خاطئ لإسرائيل، هناك مخاوف حقيقية على مستقبل الإعمار في ظل مفهوم «حماس» للنصر، خصوصاً إذا لم تع الدروس.إن من حق الدول الخليجية أن تأخذ الضمانات الكافية لتأمين أموالها ضد مخاطرة أخرى، تماماً كما اتبع مع «حزب الله»، بل إن ذلك من واجبها طبقاً لتصريح المفوضية الأوروبية المساهمة في الإعمار، بأنها لن تقدم الدعم إذا تكرر تدمير البنية التحتية، وقد يكون إحدى الضمانات، الضغط على «حماس» وإقناعها بالمصالحة والحكومة الواحدة والدولة الواحدة، وبطبيعة الحال فإن إسرائيل تتحمل المسؤولية الكبرى عن هذا الدمار والمجازر الرهيبة، فهي دولة احتلال وجبروت وعدوان، ولكن المقاومة الشرعية- أيضاً- مسؤولة عن حماية شعبها، فمن يريد المقاومة لا يترك شعبه مكشوفاً يتلقى العذاب، فالمقاومة عملية واعية وعقلانية تخضع لحسابات مفهومة وواقعية، وليست مجرد الإسراف في تحمل نزيف الدماء واستقبال الأشلاء، والحديث عن التضحيات وترديد أسطوانة خداع الذات. ويبقى في النهاية تساؤل مشروع: إذا كانت «حماس» منتصرة، فلماذا تقبل تهدئة لمدة 18 شهراً بعد هذا الدمار، وهي التي رفضت من قبل تجديدها 6 أشهر فقط؟! وأين تصريحها: ما لم نعطه تحت الحصار لن نعطيه بعد الدمار!! * كاتب قطري