Ad

واصلت الصين بخطى ثابتة ومدروسة بعناية فائقة، تقدمها نحو بناء علاقات اقتصادية راسخة مع القارة السمراء، لتجرف في زحفها الواثق مصالح دول أوروبية تربطها بإفريقيا علاقات تاريخية متعددة. والوثبة الكبرى للصين على الساحة الإفريقية تحققت منذ إنشاء «المنتدى الصيني - الإفريقي» عام 2000.

في زمن وجيز قفزت العلاقات الصينية- الإفريقية إلى مستوى غير مسبوق، لا تخطئه عين، بينما يواصل العرب إهمالهم المزمن للقارة السمراء، إما جهلا بأهميتها الاستراتيجية المتصاعدة، أو عجزاً عن بناء علاقات متميزة مع دول ذات بيئة اجتماعية معقدة، أو ميلا شبه فطري إلى الغرب ليكون المقصد الأول لاستثمارات العرب ووارداتهم المتنوعة، مع أن هناك مجالات في إفريقيا وغيرها مفتوحة على مصاريعها أمام أي مستثمر جاد، ويمكن أن تدر عوائد أكبر مما يجنيه الاستثمار في الغرب.

وفي نهاية المطاف أدى تراكم هذا التجاهل وذلك العجز إلى غياب التأثير العربي في إفريقيا، الأمر الذي انعكس على مواقف دولها من قضايانا في المحافل العالمية، على النقيض تماماً مما كان سائداً في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، حيث ألهمت مصر العديد من الثورات الإفريقية، وساعدت حركات الكفاح المسلح ضد الاستعمار الأجنبي، وباتت لها مكانة في قلب كل إفريقي، إلى درجة أن دول القارة السمراء كانت ترفض إقامة علاقات مع إسرائيل احتراماً للإرادة العربية.

وإذا كانت بعض دول الخليج العربي بدأت توجه مساعدات إلى القارة السمراء، لاسيما الدول الإسلامية في غرب القاهرة وشرقها، فإن هذه المساعدات ضعيفة ومتقطعة ولا تلبي بالطبع احتياجات واقع صعب. وإذا كانت مسؤولية تردي هذا الواقع لا يمكن تحميلها بأي حال من الأحوال لمَن يدفع المساعدات أو يوجهها، فإنه في الوقت نفسه لا يجب على مَن يدفع شيئا ضئيلاً وغير منتظم ألا يتوقع عائداً كبيراً لتصرفه هذا، أو يلوم الدول الإفريقية على انصرافها عن القضايا العربية المصيرية، خصوصاً في ظل التغلغل الإسرائيلي المستمر في القارة وتشكيله عبئاً كبيراً على الأمن القومي العربي.

أما الصين فقد واصلت بخطى ثابتة ومدروسة بعناية فائقة، تقدمها نحو بناء علاقات اقتصادية راسخة مع القارة السمراء، لتجرف في زحفها الواثق مصالح دول أوروبية تربطها بإفريقيا علاقات تاريخية متعددة. والوثبة الكبرى للصين على الساحة الإفريقية تحققت منذ إنشاء «المنتدى الصيني- الإفريقي» عام 2000، فبعده حدثت طفرة لافتة في حجم التجارة البينية للطرفين، ليتجاوز حاجز العشرة مليارات دولار في العام المذكور، ويواصل تقدمه ليبلغ 12 مليار دولار عام 2002، ثم 13 ملياراً في العام الذي يليه، ولم يلبث أن قطع خطوات واسعة ليصل إلى 39.7 مليار دولار عام 2005، بينما يتوقع أن يتجاوز 50 مليار دولار بحلول نهاية العام الجاري، بعد أن كان لا يزيد على 12 مليون دولار فقط قبل خمسين عاماً.

وأسست الصين أكثر من 800 شركة في إفريقيا تدير استثمارات تصل قيمتها إلى 6 مليارات دولار، ووقعت اتفاقيات استثمار مع 28 دولة، دشنت بمقتضاها ما يربو على 900 مشروع تتوزع على قطاعات البناء والبتروكيمياويات والطاقة والثقافة والتعليم والصحة وتصنيع الأغذية. وعلى التوازي زاد اعتماد الصين على القارة السمراء في الحصول على النفط الخام، لتجلب 30% من احتياجاتها النفطية من السودان وأنغولا على وجه الخصوص، بينما يتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 45% في غضون السنوات القليلة المقبلة.

وتعتمد الصين في تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع دول القارة الإفريقية على مبادئ عدة، أولها ترسيخ قيمة المساواة والمنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة. ففي مقابل الاستفادة من نفط إفريقيا وثرواتها المعدنية وأسواقها المفتوحة، قدمت الصين مساعدات اقتصادية لـ53 دولة إفريقية، خلال نصف القرن الماضي، وألغت ديوناً قيمتها 10.9 مليارات يوان (1.36 مليار دولار أميركي) عن 31 دولة إفريقية. كما ألغت التعريفة الجمركية على 190 نوعاً من المنتجات المصدرة من 29 دولة إفريقية، ودربت أكثر من 10 آلاف موظف إفريقي، في التخصصات المختلفة.

أما المبدأ الثاني، فهو عدم التدخل في شؤون الدول الإفريقية، على غرار ما تفعله بعض الدول الغربية التي تستخدم قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان شروطا لتقديم المساعدات والمعونات والاستثمارات. وتتكئ بكين في هذا على سمعة تاريخية ناصعة، إذ إنها لم تمارس الحكم الاستعماري للقارة السمراء، ولم تشارك في جريمة نهب ثرواتها وقدراتها واستعباد شعوبها ردحاً طويلاً من الزمن. وتتوخى بكين الحذر في تصديرها السلاح إلى دول القارة، التي تحصل على نحو 10% من مبيعات الصين من هذه السلعة، متجبنة ألا تظهر في أي لحظة في موضع من يؤجج الصراعات الداخلية والحروب الأهلية والتمردات العسكرية في القارة.

وهناك أربعة مبادئ أخرى، في مطلعها التحلي بالرؤية الاستراتيجية العميقة، والمزاوجة بين إرضاء الأنظمة الحاكمة وعدم إغضاب الشعوب، وهو ما سنسرده ونوفيه حقه شرحاً وتفسيراً في المقال المقبل.

* كاتب وباحث مصري