حديقة الإنسان: طبيعة العقرب!

نشر في 20-06-2008
آخر تحديث 20-06-2008 | 00:00
 أحمد مطر اعتادت الروائية التشيلية (ايزابيل الليندي) على الشروع في تأليف كتاب جديد في 8 يناير من كل عام، وذلك لتفاؤلها بهذا التاريخ الذي ابتدأت به روايتها الأولى

«بيت الأوراح»، التي جلبت لها الشهرة والانتشار بعد أن ترجمت الى عشرات اللغات الحيّة، وأصبحت لفترة طويلة واحدة من أكثر الروايات مبيعاً في العالم.

وهي تقول إن التزامها بهذا التاريخ بدأ كإيمان خرافي، لكنه انتهى لأن يكون نوعا من الالتزام بنظام العمل، وعليه فإنها بحكم تلك العادة كانت تستعد في التاريخ نفسه من عام 2006 لتأليف رواية تاريخية تقع أحداثها في المنطقة الكاريبية خلال القرن الثامن عشر، وقد أمضت الليلة السابقة نهبا للقلق ككلّ مرة، لكن الهاتف رنّ في الصباح العاصف لذلك اليوم، وكانت على الخط وكيلة اعمالها في اسبانيا، والتي يبدو أنها قد نسيت فارق الوقت الذي يمتد إلى تسع ساعات بين مدريد وسان فرانسيسكو، وقالت على الفور: «ما الجملة الاولى في كتابك الجديد؟».

ردت ايزابيل: ليست هناك جملة أولى يا كارمن... إنها الثامنة صباحا عندنا.

عندئذ قالت كارمن: في هذه الحالة، اشرعي في كتابة «مذكرات».

ردّت إيزابيل: لكنني فعلت هذا سلفاً في رواية «باولا»... ألا تتذكرين؟

قاطعتها كارمن: إن ذلك كان في عام 1993، ومنذ ذلك الحين جرت أحداث كثيرة لك ولأسرتك المنكودة. إنني على يقين من أنّ القراء يودون أن يعرفوا أكثر عنك وعن أسرتك.

ويبدو أنّ (إيزابيل ألليندي) قد وجدت في اقتراح وكيلة أعمالها محرّكا خارجياً مشجّعاً لرغبة ذاتية حارقة في العودة الى طرح موضوعها الأسري مرّة أخرى، حيث انها كانت تحس في أعماقها بحاجة شديدة إلى مواصلة التحدث الى ابنتها (باولا) التي توفيت بعد غيبوبة طويلة، وهي في عامها الثامن والعشرين.

وعلى اثر تلك المكالمة شهد الثامن من يناير لذلك العام كتابة السطور الأولى من كتاب «The Sun of Our Day خلاصة أيامنا» الذي صدرت طبعته الانكليزية قبل بضعة أسابيع.

في هذا الكتاب الجديد تتوالى الفصول عبر 300 صفحة، على شكل حديث توجّهه إيزابيل ألليندي الى ابنتها (باولا)، تخبرها من خلاله بكلّ ما جرى لأفراد الأسرة منذ ان ودعوها إلى الأبد، بنثر رمادها في الغابة القريبة من موضع اقامتهم في اميركا، تنفيذاً لوصيتها التي تكتبتها قبل دخولها في الغيبوبة.

وما يعنينا هنا، قبل استعراض الكتاب في مقالة خاصة، الوقوف على المشاكل والملابسات التي صاحبت تأليفه، كما روتها إيزابيل الليندي في العدد الأخير من مجلة «الكتب» الفصلية التي تصدرها مكتبة ووترستون في لندن.

تقول ألليندي انها وجدت وجاهة في اقتراح وكيلة أعمالها، لأن هناك اناسا كثيرين ممن لم يسبق لها ان قابلتهم، كانوا كثيرا ما يسألونها عن أسرتها، وعمّا إذا كان (أرنستو) زوج ابنتها الراحلة قد اقترن بزوجة أخرى، وعما إذا كان ابناء زوجها الأميركي مازالوا يتعاطون المخدرات، وعما إذا كانت هي نفسها قد استطاعت تجاوز أحزانها بفقد ابنتها (باولا).

وبالنسبة إلى النقطة الأخيرة تقول: إن الحزن لدي مثل حيوان أليف، فهو يعوي في داخلي أحياناً، لكننا بشكل عام نمضي قدما متصاحبين في هذه الحياة.

لقد كانت ابنتي حضوراً رقيقاً في حياتي، وانني لأجد نفسي، أحياناً، أتحدث إليها كما لو انها تستطيع أن تسمعني، ولذلك فإن فكرة (كارمن) كانت صائبة تماما، فأنا ببساطة أرغب في أن أتحدث إلى ابنتي، وبعبارة أخرى: أرغب في أن أكتب تتمة لرواية «باولا». وعلى هذا الأساس بدأت كتابة «خلاصة أيامنا»... إنها قصة «قبيلة صغيرة» كنت قد حاولت تجميعها في شمال كاليفورنيا، لتكون بديلة عن اسرتي التي فقدتها قبل خمسة وثلاثين عاماً عقب الانقلاب العسكري في تشيلي، حيث عشت منذ ذلك الحين مع زوجي الأميركي (ويللي)، موطدة العزم على ان استنسخ في الولايات المتحدة... الطريقة الاشتراكية في الحياة، كما نشأت عليها، بالرغم من انني كنت أحاول بناءها في واقع هو الأكثر (فردية) في العالم!.

لكن هذه الروائية المتصفة بالجرأة على كل صعيد، تخبرنا بما يدهشنا عن شعورها بالضعف وقلة الحيلة لأول مرة في حياتها، خلال عملها على كتابها الجديد، إذ تقول: إنني لم اتوقع أن يكون «خلاصة أيامنا» الكتاب الأكثر صعوبة بين جميع الكتب التي ألفتها: إذ ان ما لم يكن بإمكاني تجنّبه هو أنني استعرضت فيه حياة أناس أحبهم وأعيش معهم، وتلك مشكلة لم أواجه مثلها عندما كتبت «باولا»، ذلك لأنها هناك كانت قصة عائلتي القديمة في تشيلي، وقصة ابنتي التي كانت في غيبوية ممتدة ولم يكن بإمكانها مطلقا ان تقرأها.

أما في حالة كتابي الجديد فالأمر مختلف، إذ إن جميع أبطاله أحياء وبصحة جيدة، ولذلك فإنني خلال تقدمي في الكتابة كنت أسائل نفسي باستمرار عن حجم ما احتجت إلى أن أرويه، وعن حجم ما لا يخصني وحدي لكي أرويه.

وتضيف: لقد كنت كثيرا ما أقول إنه إذا كان عليَّ أن أختار بين قصة جيدة وبين ألا أجرح أقربائي، فإنني سأختار القصة، لكنني، في الحقيقة كنت أمرح فقط، ففي المذكرات يواجه الكتاب دائما خطر فضح الآخرين وتجميدهم في أدوار محددة، وذلك تقريبا ما حصل لأرنستو، الذي كان له دور زوج ابنتي في رواية «باولا»، فهو قد تزوج من جديد، كما انه الآن أب فخور لابنتين توأمين، لكنه بالنسبة إلى قرّائي

لايزال ذلك الأرمل الذي يفتقد العزاء!

وتعبيراً عن ضخامة هذا العائق وشدة وطأته تقول ايزابيل ألليندي: لقد أمضيت شهوراً عدة في انتظار ترجمة المخطوطة الى الانكليزية، لأن معظم أفراد (قبيلتي) لا يستطيعون القراءة بالاسبانية، وبعدما تمت الترجمة وقرأها أفراد الأسرة، جاء كل منهم على انفراد ليواجهني بالاتهام، فبعضهم وضع علامات حمراء على كل صفحة من المخطوطة، وبعضهم وضع قليلا من الملاحظات الخجولة على الهامش، وبينما كان بعضهم يذرف الدموع، كان البعض الآخر يتميز من الغيظ. ونتيجة إلى ذلك، ولاسيما المعركة الحامية التي خاضها ضدي أياما (هارلي) ابن زوجي، والتي اتهمني خلالها بأنني مصصت دمه مثل دراكيولا، وسرقت منه قصة حياته، فقد قررت أن أتخلص من بعض التفاصيل المزعجة، وذلك يعني انه كان عليّ ان أعيد كتابة المخطوطة مرات عدة!

وفي محاولة للموازنة بين ما يتطلبه الآخرون وما يتطلبه العمل الابداعي، تقول ألليندي: إن كل واحد من شخصيات «خلاصة أيامنا» له روايته الخاصة عما حدث من اشياء، وتلك الروايات بأجمعها مختلفة عن روايتي أنا، ولذلك فإنني أصغيت اليهم، وحيثما كان ممكنا أجريت بعض التعديلات في الكتاب لكنني، مع ذلك، لم أصقل الشفرة أو ألوان كل شيء بأقلام الباستيل. لقد عمّقت ورتبت النص، لكنني رفضت ان ألمعه من أجل إرضاء أولئك الذين يريدون أن يظهروا جذابين.

وهي تشير الى السبب الذي حملها على مثل هذه المكابدة، فتبين باختصار أنه أمر لا مفر منه، فطبيعة المبدع هي الانصياع والرضوخ لداعي الابداع مهما واجه من شقاء أو ألم.

وهي في هذا السياق تروي لنا الحكاية التالية: عندما سمع ابني (نيكو) أنني مشغولة بتأليف كتاب عن الأسرة، كان أول سؤال يطرحه هو: لماذا؟ ما الذي يدعوك الى فضح تفاصيل حياتنا الشخصية؟

قلت له ان عليه الا يقلق: فسوف لن يقرأ أحد ذلك الكتاب.

عندئد سألني: إذن، لماذا تكتبينه؟

قلت له: انها طبيعتي يا ابني. أتتذكر خرافة «الضفدع والعقرب»؟ لقد طلب العقرب من الضفدع ان يحمله لكي يعبر النهر، لأنه لا يستطيع السباحة، لكنه في منتصف المسافة لدغ الضفدع فغرقا معاً، وبينما هما يغرقان قال العقرب معتذراً: لم تكن لي في الأمر حيلة، انه شيء في طبيعتي!

وعليه فإنني آسفه يا (نيكو) لأن عندكم كاتبة في الأسرة.

وتختم كلامها قائلة: لماذا يكتب الكاتب؟ انها «طبيعة العقرب» فيه. ذلك هو الجواب!

* شاعر عراقي

تُنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية.

back to top