التجربة الإنسانية التي عايشتها في كوريا الشمالية خلال ثلاثة أسابيع بحاجة إلى كثير من الحبر ومن الورق لتسجيل أبعادها ومعطياتها. فكوريا كانت، خلال فترة الزيارة في عام 1969 وأعتقد أنها مازالت إلى يومنا هذا، عالماً آخر لا ينتمي إلى عالمنا الحديث إلا بالاسم، فكل شيء هناك يعيش على «الريموت كنترول» وعلى دقات الساعة وعلى إطلاق صافرات الخطر التي تستخدم في الحروب لتنبيه الناس إلى أن غارةً عدواً في طريقها للقيام بمهمة القصف والتدمير. ولا أغالي إذا رسمت الصورة التالية بدقة: في السادسة صباحاً تطلق صافرات الإنذار، في العاصمة «بيونغ يونغ» وفي غيرها من المدن والقرى معلنة للشعب الكوري أن عليه أن يستيقظ من النوم ويتهيأ لممارسة عمله اليومي المرسوم له بدقة. في السادسة والنصف تعود موسيقى الصافرات التي رُبطت عبر مكبرات الصوت في كل ناحية وشارع لتعلن موعد بدء إفطار الصباح. نصف ساعة ثم تعود تلك الموسيقى لتصم الآذان وكأنها تقول: حان الوقت للخروج من المنازل والتوزع في المصانع والحقول والطرقات كل إلى عمله. الصافرات تعطي الكوريين نصف ساعة فقط للوصول إلى مراكز عملهم قبل أن تنطلق مجدداً، أي في الساعة السابعة والنصف، لتأمر الجميع بالبدء في العمل.

Ad

في الساعة الثانية عشرة ظهراً تعود الصافرات إلى «الزعيق»، معلنة فترة الغداء لمدة ساعة. وفي الواحدة بدء العمل من جديد. وفي الخامسة بعد الظهر الخروج من المصانع والمعامل والحقول، وفي السادسة العودة الى المنازل. وفي السابعة البدء في تناول العشاء. وفي التاسعة التهيؤ للنوم. وفي العاشرة تصبحون على خير. وللتأكد من أن الجميع من دون استثناء، ما عدا قوى الأمن والجيش التي تتولى حماية النظام في الليل وفي النهار، تنقطع الكهرباء عن المنازل... تماماً كما يحدث عادة في سجون البلدان الاخرى. وهكذا دواليك في اليوم التالي. وبهذه الطريقة يحقق النظام الكوري هدفين: الأول زرع الانضباط الكامل بـ «أبهى» صوره، والثاني، تقنين الكهرباء... طبعاً باستثناء قصور الزعيم المحبوب كيم إيل سونغ وأعضاء اللجنة المركزية للحزب وكبار الضباط.

منذ صافرة الإنذار الاولى في الصباح الباكر تبدأ مكبرات الصوت المزروعة في كل زاوية، لا فرق بين شارع ومنزل وزقاق ومصنع و... «تواليت» بعزف الأناشيد العسكرية الوطنية ثم يتبعها خلال النهار صوت واحد موحد يلقي الخطب والعظات هو صوت كيم إيل سونغ ولا أحد غيره، بحيث لا يستطيع أي كائن حي الهروب من سماع صوت الزعيم المحبوب وخطبه ضد الإمبريالية الأميركية وتوجيهاته لبناء كورية موحدة ذات قدرة عسكرية هائلة، ليس لرد العدوان عن أراضيها فحسب، بل لتخليص البشرية كلها من شرور الأميركيين اعتماداً على «الزوتشية»، وهي نظرية اخترعها الزعيم المحبوب وخلاصتها الاعتماد على النفس لنشر مبادئ الماركسية اللينينية بين شعوب العالم المغلوبة على أمرها.

لا أدري إذا كان هذا الأسلوب الذي يصح به القول أسلوب غسل الدماغ الجماعي مازال ساري المفعول إلى الآن. لكن ما أعرفه أن «الزوتشية»، هي بمنزلة الديانة الجديدة التي يمارسها الكوريون الشماليون إلى يومنا هذا، وربما بأشكال متطورة تختلف عما عايشته خلال زيارتي عام 1969. ولابد من الاعتراف بأن هذا الأسلوب في غسل الدماغ أثبت نجاحه التام إذا ما التقى ببرنامج آخر مخصص للمواليد الجدد الذين لا يتعلمون في المدارس الابتدائية إلا قصة حياة ونضال الزعيم المحبوب، ثم ينتقلون في المرحلة الثانوية إلى تعلم فنون الحقد على الإمبريالية الأميركية في كل زمان وأي مكان. ثم إلى بقية العلوم الأخرى وأهمها ما يتعلق بالسلاح وبالحروب وبفنون التجسس.

بعد الأسبوع الاول من إقامتي في «فيلا» مخصصة لكبار الزوار تقع خارج العاصمة بيونغ يانغ أصابني مرض الملل القاتل فطلبت الخروج من «سجني» إلى دار السينما للتسلية. كانت رغبتي الحقيقية في أن أعيش وأتعايش ولو لفترة وجيزة بين أفراد الشعب الكوري. وجاءني الجواب: لا لزوم للذهاب إلى دار السينما في العاصمة، فالسينما ستأتي اليك. وكانت غلطة العمر. في المساء، وبعد العشاء دعيت إلى صالة للسينما داخل «الفيلا» حيث قضيت ثلاث ساعات في مشاهدة فيلم حربي من صنع كوري طبعاً. قصة الفيلم تدور حول فرقة كوماندوز كورية مؤلفة من 12 جندياً تتمكن من إبادة نصف الجيش الأميركي خلال الحرب الكورية مسلحة بأفكار الزعيم المحبوب. المصيبة أنني أُبلغت بعد هذه التجربة المملة إلى درجة الموت، أنني شاهدت الحلقة الأولى من أصل 13 حلقة التي ستعرض تباعاً في الأيام التالية. ولم أجد طريقة للخلاص من الكارثة التي جلبتها على نفسي سوى ادعاء المرض لمدة ثلاثة أيام. وكانت غلطة أخرى فقد نـُقلت على عجل إلى أحد المستشفيات، حيث مارس فريق من الأطباء المتعددي الاختصاصات من «الإنفلونزا» إلى مرض السرطان مروراً بالكبد والطحال هوايتهم بالكشف على كل جزء وعضو في جسدي، ثم أصدروا تقريراً بأنني خالٍ من الأمراض المعدية. وعندما سألت «كيم» المترجم الكوري الذي يجيد اللغة العربية، كتابة وقراءة وتحدثاً، أكثر من بعض زملائي الصحافيين العرب: ماذا لو كنت أحمل مرضاً معدياً؟ أجابني بابتسامة تحمل ألف معنى ومعنى أحدثت القشعريرة في بدني وشكرت الله على أنني كنت سليماً من أي مرض معدي، وإلا لما تسنى لي كتابة هذه الأسطر. ولو كنت لا سمح الله مصاباً بمرض معدٍ واحد أو أمراض عدة لجرت محاكمتي كجاسوس إمبريالي أميركي حقير مهمته نقل الأمراض لتدمير الصحة والعافية للشعب الكوري الشمالي بأكمله.

أكثر ما يخشاه كوريّو الشمال هو طغيان الثقافة والعادات الصينية على مجتمعهم الصغير. وفي سبيل محاربة هذا الطغيان الوحشي، «اخترعوا» عادات خاصة بهم تفصلهم، بل تمنعهم من الاندماج الكامل في المحيط الصيني الهائل. وفي هذا المجال يمكن القول من دون مواربة إن الكوريين الشماليين يملكون كمية كبيرة من الوطنية والاستقلالية، ومن أجل تحصينها اخترعوا الأساطير حول شخصية زعيمهم كيم إيل سونغ، إلى درجة أنه اصبح بمنزلة إله يعبد. فالحياة في مراحلها المختلفة تدور حول زعيمهم المحبوب، فهو الذي يستسقي المطر في وقت الجفاف. وهو الملهم الأول والأخير للعلماء وللقادة العسكريين وللشعراء والموسيقيين وحتى للمزارعين وعمال المصانع. وقد زاد في ترسيخ هذه العبادة البرنامج الإعلامي اليومي الذي يتحدث عن بطولة الزعيم واجتراحه المعجزات. وكل مكان زاره الزعيم تحول إلى مزار. هنا ولد في منزل صغير. ومن واجب الشعب الكوري أن يقوم بزيارة هذا المنزل مرتين في السنة على الأقل. وهناك عاش مع أمه فصار المكان مزاراً آخر. وهنالك اجتمع مع رفاقه المناضلين، حيث وضع الخطط العسكرية لدحر العدوان الإمبريالي الأممي والأميركي. باختصار، فإن كل شيء في كوريا الشمالية هو كيم إيل سونغ، تماماً كما كان «ماو تسي تونغ» في المرحلة الأولى لتسلُّمه السلطة، بعد أن انتصر على الجنرال «تشن كاى تشيك» وطرده من البلاد مع أعوانه، حيث لجأ إلى جزيرة فورموزا التي تُدعى اليوم «تايوان»، والتي أصبحت محمية أميركية، حيث كانت تمثل الشعب الصيني في الأمم المتحدة إلى بداية السبعينيات عندما طردها الأميركيون بعد صفقة سياسية شارك في إنجازها رئيس الوزراء الصيني «شوان لاي» مع «هنري كيسنجر» ورئيسه الجمهوري «نيكسون» في ذروة الصراع الصيني- السوفييتي الذي بدأ في عهد خروتشوف، وانتهى بنهاية «ولاية» ماركس ولينين في حكم الشيوعية الدولية. وقد اتفق الإعلام الدولي على تسمية هذه الصفقة بلعبة «البينغ بونغ». وقد كنت في زيارة صحافية في ذلك الوقت للصين وأجريت مقابلة مع «شوان لاي» تحدث فيها عن سياسة «البينغ بونغ» بين بكين وواشنطن بشكل إيجابي. ولهذا الموضوع حديث آخر في زمان آخر.

الحديث عن «كوريا الشمالية وأنت تضحك» لم أتمكن من إنهائه في حلقتين، بل يحتاج الى حلقة ثالثة حتى تكتمل الصورة بأبعادها الأربعة.

* كاتب لبناني