أما وقد أسكتت القوة تلفزيون «المستقبل» وجريدته وإذاعته وسقطت بيروت في قبضة المجهول، فإنّ ما سقط فعلاً هو الوطن والكيان والمواطنية. مؤلمٌ كان وما زال هذا المشهد الذي نراه يتكرّر يومياً في بيروت وقد امتدّت ألسنة سعيره المتوهجة كالنار في الهشيم مطاولةً أصقاعاً مختلفة من البلاد مُشعِلةً هنا وهناك بؤراً تهدّد بحرق لبنان «الوطن».
ما الذي جناه البعض من إثبات قدرته على إسكات الآخرين بكمّ الأفواه وفوهات البنادق والسواتر الترابية؟ وإذا كان قرارا الحكومة المُتّخذيْن في «ليلة ظلماء» همايونيان فأيّ صفةٍ نطلق على ما يحصل في شوارع بيروت وأزقتها من ترويع وإغلاق للطرقات وإحراق للمكاتب التمثيلية والاذاعات الذي لم تسلم منه حتى الارمنية منها؟ والأسوأ أنّ البعض المدّعي الحكمة والاعتدال اعتلى المنابر مُبتهجاً مُهللاً بـ«عودة السكة الى الطريق المستقيم». فهل يستقيم مسارٌ بُني على أشلاء الآخرين؟ وهل هذه هي الطريق التي نرتضيها لنفسنا وإخواننا وأولادنا؟ كنا نتمنى لو أنّ هذا البعض بحث في أعماقه عن ذرّةٍ من المواطنية الحقة فارتقى مقاماً بنفسه بدعوته الى وقف التصرّفات الهمجية لأنّها لا تؤدي إلا الى شحن النفوس وضرب منطق العيش المشترك وزرع بذور الفتنة. ثم أيّ مستقبل بعد نرتجي من وطنٍ شعر فيه أبناؤه أنهم أشبه بقصبةٍ جوفاء في مهبّ الريح؟ كيف نداوي اغتصاب أرواح اللبنانيين أولئك الذين رأوا مسلّحين يقتحمون بيوتهم وبيوت جيرانهم ليعيثوا فيها دماراً على مرأىً من قوى أمنية كان من المفترض أن تحميهم فبدت بتخاذلها الواهن وموقفها المتفرّج كأنها، لسببٍ أو لآخر، مُبرَّر أو غير مُبرَّر، تحمي مُلثمين حانقين صوّبوا أسلحتهم نحو إخوانهم اللبنانيين؟ كيف نفسّر مشاهد إحراق مبنى «تلفزيون المستقبل» القديم وأرشيفه الغني وتجسّر البعض بحقدٍ واضحٍ على استفزاز إخوانهم واستثارة حفائظ نفوسهم واستحياء ميت العزائم لديهم بانتهاك حرمة بيوتهم ومكاتبهم لتنصيب صورٍ لبشار الأسد وأعلام للحزب القومي السوري في مواقع تنادي بسيادة لبنان وحريته واستقلاله؟ شعورٌ نعجز عن ترجمته ألفاظاً: مزيجٌ من القرف والحزن والاستياء مطعمٌ بنكهات من الغضب المستكين. بعض اللبنانين ولّى شطره السياسة وليس منضوياً تحت لواء هذا الفريق أو ذاك. هؤلاء الذين شاء قدرهم السيء أن يسكنوا في رأس النبع أو كورنيش المزرعة أو النويري أو الطريق الجديدة أو الحمرا من دافع عنهم بالأمس؟ من هدّأ من روعهم وطمأنهم أنّ أقاربهم وبيوتهم وممتلكاتهم في أمان لأنّ ثمة من يذود عنهم ويحول دون وصول جنون العاصفة الهوجاء الى عتبة ديارهم؟ بالأمس البعيد كان الوعد «صادقاً» لأنّه قُطِع على اللبنانيين جميعاً على مختلف مشاربهم وطوائفهم، وكان النصرُ مدوياً لأنّه جُبِلَ بأيادي اللبنانيين كافةً: شيعة وسنة وموارنة ودروزاً وأرمن وأقليات، بأصواتهم الصادحة معاً ضدّ العدو الاسرائيلي. فهل بتنا نسير اليوم في مسار هلاك الوطن والمؤسسات وقيم العيش المشترك؟ هل نُساهم جميعاً في هلاكنا؟ أنتَ من رأيتَ بيت جيرانك يحترق لأنّ قاطنيه ينتمون الى طرفٍ سياسي غريبٍ عنك، فأقفلت بابك منزوياً على ذاتك غاضاً الطرف عمّا يرتكبه أبناء طائفتك من محرّمات، وأنتَ من ابتهجتَ اليوم لما يلقاه أبناء الطائفة الأخرى من مهاناتٍ وجرحٍ للكرامات لأنّك تنتمي الى تيارٍ مغاير، وأنتَ من التزمتَ الصمت أمام إقفال وسائل إعلامية لأنّها تنطق بحقيقةٍ لا تتردّد صداها مع حقيقتك. نعم، كلّنا نحن الصامتون، نحن الخائفون، المغيّبون قسراً أو ارتضاءً، كلّنا مجرمون لأنّنا وقفنا نتفرّج على نحر الوطن والمواطن والمواطنية من دون أن نرفع صوتنا استنكاراً او استهجاناً دفاعاً عن الحق في الاختلاف ومنطق الوطن. غداً عندما تنتهي «الهمروجة» وينتهي المسلّحون من «هرج ومرج» ما حققوه من «انتصار» سيقف اللبنانيون بعد استيقاظهم من صدمة ما حصل أمام خياريْن: أن يحزموا حقائبهم مغادرين نحو أصقاعٍ أكثر حرصاً على كرامتهم وكرامة أولادهم أو أن يدججوا أنفسهم بالسلاح من أعلى الرأس حتى أخمص القدميْن تمهيداً للجولة القادمة، فهل لأحدٍ بعدُ أن يتحدّث عن «نصر»؟!
توابل
النصرُ الهزيمة
12-05-2008