حاول (كا) باعتباره صحافيا، ان يستطلع اسباب ظاهرة انتحار بعض الفتيات المحجبات في احدى المدن التركية النائية، فوصفه الاسلاميون بأنه ملحد يريد ارواء غليل العلمانيين في أنقرة. وفي الوقت ذاته اتهمه العلمانيون بالتعاطف مع الارهابيين الذين لن يتورعوا عن قطع رأسه اذا ما استولوا على السلطة. اما الأكراد الذين لم يترددوا عن الشكوى اليه من بطالتهم واضطهاد السلطة لهم، فقد كانوا على ريبة من صلته بذوي النزعة القومية العنصرية من العلمانيين والاسلاميين على حد سواء. وبالنسبة لرفاقه القدماء من العسكر الذين كانوا ينتقدون صلاته بكل اولئك، كان مفترضا به وجوبا ان يكون مشاركا لهم في انقلابهم المحدود للحفاظ على المبادئ الأتاتوركية. وفي معزل عن كل هؤلاء كانت دائرة المخابرات تعتبره مجرد آلة تسجيل ينبغي ان تفرغ المعلومات منها حول جميع تلك التيارات، ولو تحت طائلة التعذيب!

Ad

والواقع ان (كا) لم يكن متدينا في ما مضى، لكنه انتهى، في ما بعد، الى ان يرى قدرة الله مجسدة حتى في حبة الثلج النازلة من السماء، ثم توصل في آخر الأمر الى ان يكون مجرد (مواطن) متطلع الى سعادة الارتباط بجميع المواطنين على اختلاف توجهاتهم برباط المواطنة ومبادئ الاخاء والحرية والعدل والمساواة. لكنه، في توجهه هذا، لم يجد له مكانا آمنا أبدا وسط غابة تتعدد فيها (الشموليات) من حوله. ذلك انه بدلا من ان يحظى بمودة الجميع له واعترافهم به، وجدهم يرفضون نموذجه الوسطي والموضوعي، على الرغم من الحان الوجد التي تطلقها شعاراتهم عن الحرية، وعلى الرغم من ادعائهم الوصل جميعا بليلى الاخاء والمساواة.

التعددية في مثل هذا المناخ ليست منافسة بين تيارات اجتماعية مختلفة من اجل الوصول الى تحقيق الحرية للجميع والمساواة بين الجميع، بل هي سباق بين ديناصورات حديثة تحمل بين انيابها الشعارات واصابع الديناميت معا، للوصول الى ديمقراطية (القبيلة المنفردة بالسلطة) وتحقيق اقصى درجات العدل في توزيع بركات الابادة على كل التيارات الاخرى!

تلك هي خلاصة محنة (كا) كما قدمها الروائي التركي (اورهان باموق) في روايته (ثلج)... ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا انها محنة باموق نفسه، ومحنة جميع الخارجين على حظائر فرعون اوهامان او قارون... في هذا الشرق السعيد.

المسألة التي تلح على باموق في معظم اعماله هي محاولة فهم حالة بلاده تركيا التي شاءت الاقدار لها، جغرافيا وتاريخيا، ان تكون كتوأمين سياميين احدهما رجله في آسيا والآخر رجله في اوروبا. ومن ثم محاولة التوصل الى صيغة حياة ممكنة لا تفرط في الموروث الشرقي ولا تستغني عن مستجدات الحضارة الغربية التي يرى فيها اغناء للموروث، واستنهاضا له للمشاركة، بعد سبات طويل، في صنع الحياة، والتقدم بالحضارة الانسانية الى الامام.

والواقع ان ما يصح بالنسبة لتركيا في هذا الشأن، يصح في التقويم النهائي، بالنسبة لكل بلاد الشرق التي كانت، ذات يوم، واقعة تحت نفوذ تركيا العثمانية، قبل ان تشيخ وتمرض وتسلم الجمل بما حمل لورثتها الغربيين. ولذلك فإن محاولة باموق، في النهاية، لا تختص بتركيا وحدها، بل بكل البلاد الشرقية، وهذا ما يجعلنا شخوصا غير منظورين في رواياته، ومن ثم شركاء اصليين في رحلة بحثه عن الصيغة المنشودة للتعايش والتبادل الحضاري، دون الذوبان في الآخر... ودون الانقطاع عنه.

لقد عالج باموق هذه العلاقة المتوترة في روايته الشهيرة (اسمي احمر) بقالب فني استدعى فيه تاريخ فنون التشكيل لدى الغربيين والشرقيين.

اما في روايته الاقرب الى نفسه (الحياة الجديدة) فقد اختار ان يعالج الموضوع نفسه عن طريق الفانتازيا البوليسية، دون ان يتردد، خلال ذلك، عن الاحتجاج بوضوح وبصوت حاد النبرة ضد المنسلخين من الهوية الشرقية من جهة، وضد المتقوقعين في قمقم تلك الهوية من جهة اخرى، اذ يرى ان الفريقين لا يختاران طريقين مختلفين للوصول الى (الحياة)... بل هما يختاران مكانين مختلفين لملاقاة (الموت)... ولا فرق حينئذ، بالنسبة له، بين ان ينتحر المرء في بيته او أن ينتحر في عرض الشارع العام.

في اثناء عمله على رواية (ثلج) صرح (اورهان باموق) بأنها ستجر عليه المتاعب.

ولا احسب ان تصريحه بذلك كان نوعا من النبوءة، فقد كان واضحا له، كما اصبح واضحا لنا بعد صدور الرواية، انه بالصيغة الفنية الجديدة التي عالج بها موضوعه الاثير، قد دخل الى ارض الواقع المعيش والحي والمعروف، وهو يعرف انها ارض مزروعة حتى هامتها بالالغام، وان الحيل الفنية، مهما اتسعت، لن تستطيع مراوغة آفاقها الضيقة، حيث كل جماعة فيها تؤمن من صميم قلبها بديمقراطية (الفرقة الناجية)!

لم ينج (كا) من العذاب.

ولم ينج (باموق) من غضب جميع الاطراف. لكننا بالالحاح على ادانة هذه الحالة، سوف ننجو جميعا في النهاية.

* شاعر عراقي