منذ سنوات كتبت مقالا بعنوان «مشتقات الخنزير في بطوننا»، تحدثت فيه عن أحد المنتجات الغذائية المنتشرة في أسواقنا العربية، والتي تحتوي على دهون مشتقة من الخنزير، أعزكم الله، وقد انتشر المقال انتشار النار في الهشيم عبر سلاسل الرسائل الإلكترونية لدرجة أنه لاتزال حتى الساعة تصلني بين الفينة والفينة رسائل تسأل عن ذاك الموضوع الذي راح منذ زمن بعيد!

Ad

وبعد تلك التجربة، وتجارب كثير ة بعدها، غدوت اليوم من المؤمنين بأن سلاسل الرسائل الإلكترونية، هي من أهم مصادر إثارة القلاقل ونشر الإشاعات وترويج المعلومات الخاطئة في زمننا الحالي.

لا يتحلى كل الناس بروح المسؤولية، ولا يمتلك جميعهم القدرة على فرز الغث من السمين، ولا يستطيع أغلبهم تصور نتائج وعواقب تصرفاته، وبالتالي فعندما يلفِّق أحد ما قصة أو حكاية لأي سبب كان، ويريد لها أن تنتشر فلا يحتاج إلا أن يرسلها لإحدى هذه القوائم البريدية، ليتكفل مئات الأشخاص من حسني النية، والبسطاء والسذج، وعشاق الإثارة والباحثين عن الشهرة، ومعهم الموتورون والخبيثون، بإعادة إرسالها إلى آلاف الناس، وترويجها في كل أنحاء الدنيا!

يوم كتبت مقالي المذكور قبل سنوات، وبالرغم من أني قبل أن أنشره قمت ببحث مستفيض على الإنترنت واتصلت بالشركة المصنعة لذلك المنتج الغذائي لأسألها عن صحة المعلومات التي تحصلت عليها، حتى وصلت إلى مرحلة الاطمئنان بأن ما سأنشره هو الحقيقة وأن ذلك المنتج يحتوي بالفعل على دهن الخنزير، إلا أني فوجئت بعدها بانهمار الأسئلة عليّ من كل الناس من دول العالم المختلفة، فوجدتني دخلت في أمر يفوق طاقتي، حيث صارت الأسئلة تتناول مختلف أنواع منتجات تلك الشركة، بل شركات أخرى، فعلمت يومها بأن طرح مثل هذه الموضوعات يحتاج إلى حكمة ورويّة كبيرة ويجب أن يكون دقيقا موزونا حتى لا يؤدي إلى نتائج عكسية!

خلال الأيام الماضية وصلتني رسالة عن أحد محال «الدونت» العالمية التي لها فروع منتشرة في دول الخليج والعالم العربي، تقول إن منتجات هذه المحال تحتوي على «اللارد»، وهو شحم الخنزير، وحتى يأخذ الأمر شكلا قابلا للتصديق، أرفقت الرسالة نصوصا لمراسلات مع الشركة لتثبت بأن منتجاتها تحتوي على ذلك. لم يحتج الأمر مني سوى زيارة سريعة إلى موقع الشركة على الإنترنت، لأجده مكتوبا فيها وبكل وضوح بأن جميع منتجاتها نباتية، والشيء الحيواني الوحيد في «الدونت» الذي تنتجه هو البيض، وأن كل أطعمتها «كوشر»، أي أنها تتبع المعايير الدينية اليهودية الصارمة للأكل، مما يعني استحالة وجود «اللارد» في مكوناتها!

قد يرى البعض أن الأمر بسيط، فماذا يعني أن يعيد المرء إرسال رسالة وصلته تتحدث عن شيء كهذا ولو لم تكن صادقة مئة في المئة؟ لكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، فعلى كل واحد منا مسؤولية قانونية وقبل ذلك شرعية وأخلاقية تجاه ما يصدر عنه، وإذا انعدم إحساسه بالمسؤولية فحينها تنعدم إنسانيته ويتحول إلى كائن آخر!

إن إعادة نشر تلك الرسالة الملفقة عن شركة «الدونت» هذه، كغيرها من عشرات الرسائل المشابهة خصوصا تلك التي تحدثت عن دعم بعض الشركات العالمية لإسرائيل، يزعجني كثيرا لأن كثيرين هم من شاركوا فيه حتى ممن أعلم بأنهم من الواعين المثقفين، دون أي تمحيص!

يا سادتي إن الموضوع خطير وأبعاده أخطر بكثير مما نتصور، ولا يصح على الإطلاق أن نتخلى عن مسؤوليتنا تجاهه ونظن أن المسألة مجرد ضغطة زر!