بصدد النقاش حول تعليق الإخوان المسلمين السوريين نشاطهم المعارض
إن وجود الإخوان في معارضة النظام هو الحل من وجهة نظر النظام أو الأجنحة المقررة فيه، وغيابهم أو اقترابهم منه أو تصالحهم معه هو المشكلة الخطرة، ولذلك يبدو لي أن فرص استجابة النظام لبادرة الإخوان محدودة.أثار قرار الإخوان المسلمين السوريين تعليق معارضتهم للنظام (7/1/2009) إبان العدوان الإسرائيلي على غزة سجالا نشطا في أوساط المعارضين السوريين، نحا عموما إلى حكم سلبي عليها. ويبدو أن الأساس المشترك للامتعاض من البادرة الإخوانية هو النظر إليها من زاوية آثارها السلبية المحتملة على وضع المعارضة السورية وقضيتها. هذا طرح ضيق في رأي كاتب هذه السطور، يداوم على التفكير بمنطق تغيير النظام، رغم تحولات كبيرة وأساسية في البلاد حولها في العامين الأخيرين تحكم على تفكير كهذا بالعقم.
من جهتي أرى أن مبادرة الإخوان مفيدة، إما لأنها تعيد خلط الأوراق، وهذا مرغوب في وضع سوري متجمد سياسيا، لا يؤذيه خلط مختلف للأوراق إن لم يفده؛ أو لأنها ضرب من «فرز» مرغوب بدوره من أجل وضوح أكبر للمواقع والمواقف والأدوار. تتعزز إيجابيتها إن تمخضت عن حلحلة بعض الملفات الإنسانية الموروثة عن صراع الثمانينيات، أو إن ترتب عليها عودة الإخوان إلى البلد من مناف قضى بعضهم فيها ثلاثين عاما. وتبلغ البادرة ذروة الإيجابية إن أفضت إلى مصالحتهم مع النظام، بل تحالفهم معه. لماذا؟لأن من شأنها أن تمس بالوضعية «البعبعية» التي شغلها الإخوان طوال جيل كامل. من حيث هم «بعبع» يخيف ويستخدم لإخافة قطاعات مهمة من السوريين، نحو نصف السكان أو أكثر، أسهم الإخوان المسلمون في تجميد الأوضاع السورية، وفي تقديم خدمة لا تقدر بثمن للنظام ولنخب إيديولوجية وسياسية حوله. فبفضل البعبع أو الفزّاعة الإخوانية حاز النظام الحاكم هامش مناورة اجتماعيا وسياسيا وثقافيا واسعا، وأضحى نوعا من «الحل» بعد أن كان يبدو مشكلة محضة في عيون طيف واسع من السوريين. وبمجرد أن نتكلم على كونه حلا، يحوز النظام قيمة واعتبارا إيجابيا ويظهر كخيار مقبول، فيكف عن كونه محض سلطة استبدادية عارية من القيم تفرض نفسها بالقوة. إن صح هذا التحليل فإن وجود الإخوان في معارضة النظام هو الحل من وجهة نظر النظام أو الأجنحة المقررة فيه، وغيابهم أو اقترابهم منه أو تصالحهم معه هو المشكلة الخطرة. ولذلك يبدو لي أن فرص استجابة النظام لبادرة الإخوان محدودة. فمن يضحي ببعبع مثالي، يجمع بين قلة خطره وبين كونه أداة تخويف ممتازة؟ وعليه، ربما يناسب الشاكين من بادرة الإخوان أن يأملوا تصالحا تاما بين النظام والإخوان، بل لوم الإخوان على «خذلانهم» للمعارضة، اللوم الذي يبدو أنه توجهه حسابات سياسية صغيرة. من شأن التصالح بين الطرفين أن يكون تغيرا زلزاليا مرغوبا في الجيولوجيا السياسية السورية. ولهذا التغير مفاعيل كاسرة للاستقطاب الاجتماعي الحاد المقيم منذ عقود، وهو بالتالي محرّر سياسيا وثقافيا وسيكولوجيا. هذا رغم أنه من غير المحتمل أن تكون بادرة الإخوان، حتى لو استجيب لها، كافية لنزع الصفة البعبعية عن «الإسلام السياسي». غاية ما هنالك أن تغدو الفزّاعة قريبة وملء النظر، إن وجود ونشاط الإخوان المسلمين في مصر، على سبيل المثال، يثبِّت الأوضاع المصرية على ثنائية اجتماعية، حياتية وثقافية وسياسية، يبدو أنها مناسبة لدوام النظام الحالي، بل لعلها مصدر شرعية جزئية له. لا يحتاج المرء إذن أن يكون قريبا من الإخوان إيديولوجيا أو سياسيا حتى يرحب ببادرة، إن لم تثمر تغيرات مهمة في البيئة السياسية السورية، فإن لها آثارا نفسية مرغوبة، وفي كل حال لا ضرر منها. ***تعرض البادرة الإخوانية سمة مثيرة للتأمل: فهي من جهة تعكس نمو المحدد الشرعي (نسبة للشريعة الإسلامية) والإخواني العالمي في سياستهم على حساب المحدد السياسي السوري، والغريب من جهة ثانية أن ذلك يقود إلى مواقع أقرب مبدئيا من النظام وليس أبعد. يفترض المرء أن سياسة تُبنى على الشريعة تفضي بالأحرى إلى تمركز حول «الإسلام» وتباعد عن النظام، فكيف يحصل هنا أن تقود إلى مواقع أقرب للنظام؟ في أساس هذه المفارقة الظاهرة مذهب «الممانعة» الذي يقوم على إغلاق الداخل السياسي تماما ويعرّف السياسة حصرا بدلالة «الخارج» المعادي، المذهب الذي يشترك فيه القوميون والإسلاميون العرب. ينمو العنصر الممانع في تفكير الإخوان، فيقتربون من عموم الإسلاميين العرب الممانعين (الذين يعرفون الداخل تعريفا ثقافيا، بل دينيا، لا تعريفا اجتماعيا وسياسيا) ومن النظام، بعد أن كان تفكيرهم كمعارضين سوريين يتجه إلى ضرورة فتح الداخل وتعريف السياسة بتدبر نزاعاته. لا نعلم ما قد يجري في المستقبل، لكن نرجح أن التقاطع الممانع عابر ومؤقت. ممانعة النظام أداتية دون عمق ثقافي، وقد يبرح الموقع الممانع إن استمرت مناخات الانفراج الإقليمي، خصوصاً إن أنجز اتفاق سلام سوري-إسرائيلي. أما ممانعة الإسلاميين فهي فكرية وأصيلة، ولأن النظام لا يستغني عن «الخطر الأصولي» (البعبع) رغم الممانعة، والإسلاميين السوريين لا يستغنون تكوينيا عن الممانعة رغم تعارضها مع مصلحتهم السياسية، فقد نرى استئنافا للخصومة بينهما، على اختلاف في المواقع والحجج. يبقى أن الإخوان تحركوا بصورة منفردة، مراعين في تحركهم إخوانهم الإسلاميين العرب وإيديولوجيتهم الإسلامية وحاجاتهم الذاتية فحسب. ودونما اهتمام فيما يبدو بمواقف أقرب حلفائهم. هذا غير لائق، لكنه مؤشر محتمل على تشكل جديد للوحة القوى المعارضة، بحيث تستعيد التمايزات الفكرية أولويتها في تحديد المواقف وتوجيه السياسات. ليس هذا المؤشر وحده ما يوجب على الديمقراطيين السوريين إعادة ترتيب أوضاعهم وبناء قضيتهم وتأكيد استقلاليتهم. بيد أن تفصيل هذا الأمر يقتضي تناولا مستقلا. * كاتب سوري