قمم وبيانات!
أذكر هذا، وكأنه جرى أمس الأول، ففي سبتمبر عام 1982 انعقدت قمة فاس الثانية على وقْع حدثين هامين: الأول هو خروج منظمة التحرير وقواتها ورئيسها من بيروت تحت ضغط القوات الإسرائيلية الغازية، والآخر هو اتخاذ الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان خطوة متقدمة تجاه القضية الفلسطينية ومشكلة الشرق الأوسط، ضمَّنها بياناً أصدره بعد ساعات من مغادرة ياسر عرفات (أبو عمار) العاصمة اللبنانية متوجهاً الى أثينا على متن سفينة إيطالية أبحرت الى العاصمة اليونانية بحراسة عدد من الطرادات الحربية الأميركية والفرنسية. كانت قمة فاس الثانية قمة فلسطينية، وكان الحضور العربي فيها بنصاب كامل، وكانت قد سبقتها قمة فاس الأولى التي انعقدت أساساً بجدول أعمال من نقطة واحدة، هي مبادرة العاهل السعودي الراحل فهد بن عبدالعزيز، وكان يومها وليّاً للعهد، لحل القضية الفلسطينية وأزمة الشرق الأوسط التي وقفت ضدها بعض الدول العربية، والتي لم يستطع ياسر عرفات الموافقة عليها رغم قناعته بها تحت ضغط هذه الدول التي كانت لها مراكز قوى مؤثرة في الساحة اللبنانية.
لقد كنتُ الصحافي العربي الوحيد الذي حضر هذه القمة عن قرب وعاش كل ما جرى في «كواليسها» مع أنني لم أدخل القاعة التي انعقدت فيها، فالسلطات المغربية كانت قد خصصت مدينة مكناس التي تبعد أكثر من خمسين كيلومتراً كمركزٍ لأجهزة الإعلام والصحافة، وهذا جعلني من بين كل زملائي الأقرب إلى حدث تاريخي لايزال يتجسد في المشهد الشرق أوسطي من خلال مبادرة السلام العربية التي بدأت كمبادرة من قبل الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما كان وليَّ عهد المملكة العربية السعودية، ثم تبناها العرب في قمتهم الدورية الثانية التي انعقدت في بيروت عام 2002. شَهِدتْ قمة فاس الثانية مواجهة ساخنة بين الرئيس السوري السابق حافظ الأسد والرئيس العراقي السابق أيضاً صدام حسين، فالخلاف بينهما كان عميقاً ومتجذراً، ولكنه اتخذ طابعاً فلسطينياً ككل الخلافات العربية- العربية، إذ اتخذ الثاني موقف المدافع عن الدور الذي لعبته منظمة التحرير وفصائلها في مواجهة الغزو الإسرائيلي للبنان، واتخذ الأول موقف الناقد لهذا الدور الذي أصبح في ذمة التاريخ بإيجابياته وسلبياته. يومها، ولوجودي في أروقة هذا المؤتمر وبين كواليسه، استطعت تحقيق سبق صحافي في غاية الأهمية، فقد شاركت في معظم اللقاءات الخارجية التي أجراها الخبراء في الوفود المشاركة من أجل الاتفاق على البيان الختامي... ولقد حصلت على النص النهائي قبل أربع وعشرين ساعة من إقراره من قبل القادة، وسارعت الى إرساله الى مكتب صحيفة «السفير» اللبنانية في باريس، التي كان ذلك آخر علاقة عمل لي بها، ومن هناك تم إرساله الى بيروت. كنت أعتقد أنني فعلت «ما لم يستطعه الأوائل» وأن ما قمت به سيخلِّدني كصحافي ناجح، ولكنني بعد انعقاد القمة اللاحقة تيقنت من أن القمم هي ذات القمم، وأنه «سيأتيك بالأنباء من لم تزود» وأنه لا قيمة لبيانات هذه القمم، وأن هذه البيانات بقيت تكرر نفسها، وأنها ستبقى تكرر نفسها، وهذا ينطبق على قمة الدوحة التي ستنتهي اليوم. كاتب وسياسي أردني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء