الكويت... الدولة الصغيرة تكبر ديمقراطيا

نشر في 25-05-2008
آخر تحديث 25-05-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد كما تقرر الصحافة الكويتية فالانتخابات البرلمانية الأخيرة شابتها مشكلات وانتهاكات بعضها خطير بالفعل: الطائفية والقبلية والدور السلبي للمال خصوصا شراء وبيع الأصوات والحالة العامة التي منعت نجاح النساء في انتخابات حرة.

ولكن شتان بين هذه المشكلات في الكويت وما يحدث في البلاد العربية الأخرى من تزوير منهجي فاضح للانتخابات العامة فضلا عن بروز أضعاف تلك المشكلات التي برزت في الانتخابات البرلمانية الكويتية الأخيرة، ففي مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب نجد ظاهرة شراء الأصوات، خصوصاً من السيدات المسنات والفقيرات. وقد لا نجد تعبيرات مباشرة عن «القبلية» في مصر تحديدا ولكن التصويت يذهب عموما لأبناء القرية أو المركز الإقليمي أو المحافظة أو للعائلة التي مثلت هذه التجمعات عقودا طويلة، من دون أن تحقق إنجازا سياسيا أو قوميا واحدا. فكأن العشائرية والمناطقية وغيرها من الانتماءات المسبقة التي ليس لها صلة بالديمقراطية هي السمة العامة للتصويت في العقود الأخيرة بالذات. وتقود هذه النتيجة بعض المفكرين والكتاب إلى الشك في قيمة الديمقراطية وأثرها الحقيقي في المجتمعات العربية. ويؤكد البعض أن الديمقراطية قد تؤخر تكوين مجتمع وطني فضلا عن أنها قد تعاكس التطور العقلاني والسلمي للمجتمع.

البعض يعتقد أيضا أن الديمقراطية قد تعزز التطور الاحتكاري للنظام الرأسمالي لأنها ارتبطت بمجتمعات عديدة بالدور الكاسح لرجال الأعمال، وتعكس مصالحهم، وتمثل وسيلتهم للسيطرة على القرار السياسي والاقتصادي أو عقد التحالف مع سلطة الحكم أو طقس الزواج بين الحكم والمال، وهو ما يتم جزئيا عن طريق شراء الأصوات. وفي مصر مثلا زاد عدد رجال الأعمال الأعضاء في مجلس الشعب من 100 عضو في انتخابات 2000 إلى أكثر من 130 عضوا في انتخابات 2005. وقادت هذه النتيجة موضوعيا لتشكيل حكومة أقوى من فيها رجال أعمال كبار. وفي المغرب الذي قدم تضحيات غالية للغاية من أجل الديمقراطية ويعد أكثر البلاد العربية نضالية وتقدما في النضال المنظم من أجل الديمقراطية شهدت الانتخابات الأخيرة نزعا عاما للتسييس، واحتقارا للأحزاب وبيعا للأصوات في ازدراء صريح من جانب الفقراء والشباب والنساء للفكرة الديمقراطية.

وبالمقارنة فإن الانتخابات الكويتية الأخيرة هي الأفضل في هذه الجوانب. أما أبرز المشكلات التي تنفرد بها الكويت أكثر من غيرها من البلاد العربية التي تحترم الحد الأدنى من الجدية في العملية الانتخابية فهي مشكلة الطائفية والقبلية. والواقع أنه لا يمكن وضع مشكلة الطائفية مع المشكلات الأخرى للعملية الانتخابية الأخيرة وقبل الأخيرة في الكويت، وكأنها جميعا من طبيعة واحدة. فشراء الأصوات مشكلة تتصل بتوسع الفوراق الطبقية وتأخر تكون مجتمع سياسي وطني. أما الطائفية فقد تمزق المجتمع الوطني، وقد تدفعه للصراعات الأهلية المستدامة بل للحرب الأهلية كما حدث في لبنان طوال السبعينيات، ومع ذلك فقد تتخذ هذه المشكلة مسارا مختلفا تماما وتبرز باعتبارها حالة انتقالية تقود أو تسمح بقيادة البلد نحو نظام ديمقراطي أقوى رسوخا وأكثر مساواتية وأقل شكلانية.

ماذا يحسم مسار العلاقة بين الديمقراطية والطائفية؟ الاعتبار الأول من حيث الأسبقية هو قانون للأحزاب والمنابر السياسية يضمن حداً أدنى من التنوع الطائفي والجهوي والعشائري... إلخ. ويمكن القول بشكل عام إن القانون كان أداة ناجحة في ما يتعلق بمكافحة النزعة الإثنية عندما طبق باستقامة ووضوح. فالأصل أن يكون الحزب أو المنبر السياسي أداة للسياسات وليس للعصبيات، ومن المهم أن يلزم القانون جميع الأحزاب التي تتقدم لنيل الاعتراف والشرعية وتريد يوما أن تحكم بتقديم دليل على ابتعادها عن التعصب الطائفي أو القبلي من خلال التنوع. فلا يجوز أن تتحد القبيلة أو الطائفة مع الحزب السياسي.

ولكن القانون وحده لا يكفي، فلابد أن تكون الوقائع المادية على الأرض متسقة مع هدف القانون، والواقع أن ما يدفع الناس للتجمع حول «الإعلام» الهوياتية الفرعية كالقبيلة والعشيرة والطائفة والانتماءات الدينية عموما هو الشعور بعدم المساواة. ويعرف العلماء الحالة الإثنية- أي الحالة التي تلتهب فيها الحدود أو الخصومات الحقيقية والمفتعلة بين جماعات الهوية أو حالة إفراز خريطة هويات فتتغلظ الحدود بين انتماءات بسيطة داخل الجماعة الواحدة وتبدأ في الانقسام إلى أكثر من جماعة- بأنها استهداف جماعة ما بمعاملة غير متساوية بدءا من علامات جسمانية أو ثقافية.

ومثلما تلزم الدولة مواطنيها بالتنوع عند تشكيل أحزاب سياسية فعليها هي أن تلتزم بإلغاء جميع صور التمييز بين المواطنين، ومع الأسف فإن أكثر أشكال التمييز ليست كامنة في القانون إنما في الواقع، وهو ما يلزم الدولة بمكافحة الطائفية على المستويات الدنيا للحياة الاجتماعية بما يجرم التمييز خصوصاً في التوظيف.

والواقع أن المساواة التي تضمن تجاوز الطائفية هي تلك التي ترسي قواعد مادية ورمزية أيضا. وبوجه عام فإن تحقيق الاندماج الوطني يعني أن الكل يشعر بأن الدولة والحيز العام يهتم برموزه العليا مثل الآخرين، ولابد أن يجد الناس جميعا ولو أثراً لرموزهم في الإعلام وغيره من وسائل وآليات التعبير وإلا فلن يعتبروا الدولة دولتهم أيضا فتصبح غريبة عنهم وملكية غيرهم فيكرهونها.

ولكن هل يقضي كل ذلك على التعصب؟ إن ما يقضي على التعصب والتمييز في المجال السياسي تحديدا هو تكون أوعية جامعة نشيطة. فلا يمكن القضاء على التعصب أو تخفيف الحمولات السياسية للهويات الفرعية بمجرد إظهار سلبياتها فلابد أن تظهر بالمقابل إيجابيات الوعاء القومي، ويعني ذلك أن تتمتع الدولة بخطاب مواطنة ذي مصداقية، وأن تمثل مستوى أرقى للتعبير السياسي، وأن تتمكن من صهر الأفراد والجماعات الصغيرة عاطفيا، والأهم أن تمنحهم فرصة ممارسة تجربة سياسية وثقافية وأخلاقية أصيلة. وفي الواقع لا شيء يماثل شعور المواطن بالفخر بدولته وحكومته ونظمه، بل يعد هذا هو العامل الحاسم في الاندماج القومي وفي ثبات الناس على الوفاء بواجبات المواطنية، ويحتاج إنجاز هذه المتطلبات إلى استراتيجية ملائمة لكل دولة.

إذا تطورت الكويت عبر الوفاء بهذه التوجهات تصبح الطائفية التي نشهدها حاليا مجرد عربة تصل بنا إلى ديمقراطية أكثر رسوخا، فكأن الطائفية والقبلية هي أدوات للتعبئة والتفاوض حول ضمانات المساواة في الفرص والمساواة في الرموز أو اندراج كل الرموز في الأطر الجامعة. هل تستطيع الكويت أن تحقق هذه المتطلبات؟

الحقيقة أنها تستطيع لأسباب كثيرة منها حجمها الصغير، وكان المفكر الهندي شوماخر قد تنبه إلى جمال الحجم الصغير بذاته فأصدر كتابه «الصغير جميل» في مقتبل السبعينيات. وكان يشير أساسا إلى المؤسسات الاقتصادية والخدمية بالذات. ولكن إن تجولنا بأعيننا في الحيز السياسي العربي فسوف نقع على اكتشاف لطيف للغاية، وهو أن الدول الصغيرة ليست فقط أكثر غنى بل أكثر تسامحا من الدول الكبيرة.

ولأن الكويت ذات تراث ديمقراطي مديد ولأنها واصلت الانطلاق الديمقراطي خلال العقدين الماضيين فشعوري أنها تكبر من خلال الديمقراطية.

* نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام

back to top