* لا أعرف ما إذا كان من حق المبدع التبرؤ من إبداعه البكر، أو حجبه عن المتلقين؛ بداعي أنه لا «يليق» -الآن- بمكانته الأدبية الرفيعة؟! فثمة العديد من المبدعين العرب في شتى مناحي الإبداع، يتنكرون لإبداعهم الذي يجسّد مرحلة الطفولة في مسيرتهم الإبداعية، كما لو أنه مولود لقيط يستأهل أن يلفه في خيشة النسيان، ويتركه بجوار جدار أحد المساجد! على الرغم من وعيه وإدراكه أن المبدع لا يكون كذلك إلا نتيجة التراكم الحاضن لكل نتاجه الإبداعي.

Ad

ومن هنا: نجد أن أعلام الشعر والقصة والرواية في القرن العشرين مثلا: ينشرون أعمالهم الكاملة من دون حذف وقص وإقصاء لمحاولاتهم الإبداعية التي دبجوها في بداياتهم، بدعوى أي ذريعة كانت! فأمير الشعراء «أحمد شوقي» بجلالة قدره لم يجد «غضاضة» في نشر إبداعه الذي كرسه للأطفال، وأزجاله المصوغة بالعامية التي عزر بها «محمد عبدالوهاب»، وأفضت إلى زيادة جماهيريته وعدد مريديه! وحتى شعره «الحلمنتيشي» الساخر الذي كان يتبادله مع أقرانه من شعراء جيله! كان- والمعروف في الأوساط الأدبية بشعر «الإخوانيات»- متداولاً ومعروفا فضلا عن شعره الذي قاله زلفى «للخديوي» سلطان مصر في شبابه!

وفي هذا السياق أذكر أن القاص الفذ الدكتور يوسف إدريس، قال لي إن تجاربه البكر في القص لم ترق للنقاد اليساريين، ولو كان انصاع لنقدهم العقائدي الصارم لما حظيت حياتنا الأدبية بولادة هذا القاص الروائي العبقري المدهش! ولمَ نذهب بعيدا إلى فضاء المحروسة الإبداعي، بينما يمكن التدليل على ما ذهبنا إليه من فضاء الإبداع في بلدنا نفسه؟

* حين شرعت الأديبة «ليلى العثمان» بنشر نتاجها الإبداعي البكر، مطلع عقد السبعينيات شعرا ونثرا، وكانت -آنذاك- شابة غضة، سرّب «أولاد الحال» من أهل «الكار» إشاعة مغرضة تقول: إن أديباً وصحافياً معروفاً يكتب لها نظير المقسوم السخي! فاضطرت «البنيّة» آنذاك إلى تدبيج مقالاتها في عقر «دار السياسة» لتثبت لمراسلي وكالة أنباء يقولون بأنها تكتب بنفسها جهاراً نهاراً أمام الزملاء العاملين في الصحيفة، أما العبد لله فلم يكن يحتاج إلى بيّنة تدحض الإشاعة إياها. ذلك أني سبق لي الاطلاع على كرّاس يضم بين دفتيه محاولاتها الأولى لكتابة المقالة والشعر والقصة بصيغة عفوية أحسب أنها تنتمي إلى أدب البوح الصريح الذي تتجلى فيه جل الأشكال الأدبية. ولم يكن ثمة شك لدي بأن ما قرأته في «الكشكول» المدرسي من تجليات أدبية من إبداعها، لسبب بسيط جدا يكمن في خطها الرديء المشابه لـ«روشتات» الأطباء الرديئة الخط، التي لا يمكن لغيرهم قراءتها سوى الصيادلة! ومع ذلك لم أكن معنيا بالدفاع عنها، ونفي إشاعة الانتحال عن أدب البوح الذي كانت تنزفه على الورقة أسبوعيا، لاعتقادي أن الفعل الإبداعي المتواتر وحده الكفيل بوأد الإشاعة، وهذا ما حدث لاحقا. الظريف أن الكُرّاس المذكور فُقد منها، وقد سألتها مرة لو أنك عثرت عليه هل تنشرينه بقضه وقضيضه؟! أم أنك ستعمدين إلى حجبه عن الأنظار، بدعوى أن متنه ومحتواه، لا يلتقيان بمكانة الأديبة القاصة، ولا ينتسب إلى الأدب الناضج الذي صار عليه إبداعها؟! وأذكر أنها قالت: سأنشره كما هو، من دون حذف كلمة وحيدة منه، كونه يجسد بدايتي بكل ما تنطوي عليه من طزاجة وبساطة وأخطاء إملائية ونحوية... وما إلى ذلك!

* والحق أن المبدع ليس من حقه حجب نتاجه الأول البكر أيا كانت الذريعة التي يتكئ عليها، لأن باكورة إنتاجه من صلبه الإبداعي، ولا يمكنه إنكار انتسابه إليه بدعوى أنه لا يرقى إلى مستواه الإبداعي الحالي؛ بعد أن أصبح علما مشهوراً! خصوصا إذا كانت أعماله الأولى سبق له نشرها، وباتت معروفة للقاصي والداني، فلا مجال، والأمر كذلك، إلى إنكار نسبه، والسعي إلى نفيه ومحوه من أرشيف مسيرته الإبداعية «لأن من يكتب، مهما يكن، إنما يتورط» بحسب «جان كوكتو». كما أن الكلمة مثل الطلقة إذا خرجت من فوهة البندقية يستحيل إعادتها! ومادام الأمر كذلك، لمَ يعمد بعض المبدعين العرب إلى إضفاء العتمة على إبداعهم الذي يجسد محاولاتهم الأولى في الشعر والقص والمقالة والراوية، وكل ما يتمخض عن وجدانه في شبابه؟!

يبدو لي أن هذا السؤال ليس في مقدور النقاد الإجابة عنه، لظني أن هذه المهمة من شأن المختصين بالتحليل، والطب النفسي علّهم يتمكنون من سبر غور الحالة النفسية للمبدع، التي تدفعه إلى وأد «بنات» أفكاره، خشية العار والشنار؛ اللذين يستحوذان عليه، لسبب نفسي غير سوي يحتاج -بالضرورة- إلى العلاج وإعادة التأهيل، إلى حين يكف عن إنكار أبوته لأبنائه الذين تكمن جريرتهم في ولادتهم في الزمن الذي كان فيه الوالد المبدع مغمورا لا يعرفه سوى معشر النقاد والمتلقين المتابعين لإبداع المبدعين الجدد! ولعل هذا الموقف الغريب الشاذ اللا سوي لم يُبتلَ به سوى مبدعينا «العربان»، ولا أخاله يصدر عن المبدعين الأعاجم غير العرب. حيث تجدهم بمنزلة كتاب مفتوح مشرع للنقاد والمتلقين بمنأى عن أي تحفظ كان.

الشاهد أن هذه المسألة مطروحة للحوار لعلّ أحدا من النقاد والباحثين يثبت أن ما زعمه العبد لله مجرد «تخاريف» كاتب عجوز يتوهم ما هو غير حاضر في سلوك بعض نجوم الأدب هنا... وفي الأقطار العربية كافة!