إلى أين يتجه لبنان؟ 2 - 2

نشر في 27-05-2008
آخر تحديث 27-05-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد الصعوبة الأكبر في التوصل إلى حل سياسي للصراع الاجتماعي والسياسي الممتد في لبنان هي تعريف صورة المجتمع اللبناني المرغوب، وقد يضطر الجميع إلى احترام حق اللبنانيين في الكسب من موسم السياحة الصيفية هذا العام، وهو ما يبشرنا بأن الصراع العسكري سيتوقف سريعاً. أما التوفيق بين «صور المجتمع» المتناقضة فسيكون أمراً عسيراً وبالغ الصعوبة.

ثمة صعوبة مباشرة بالطبع، وهي العلاقة العضوية بين الصراع الدولي في المنطقة ومستقبل لبنان السياسي، وقد لا يمكن إقناع أي طرف، خصوصاً «حزب الله»، بالتخلي عن سلاحه والتحول إلى أحزاب سياسية اعتيادية قبل «حسم الصراع» في المنطقة خصوصاً بين إسرائيل وإيران، فلا شك أن ثمة حالة من الانتظار الثقيل لاحتمالات تفجر الصراع الإقليمي- الدولي في المنطقة وقيام أميركا- إسرائيل بضرب إيران وسورية وهو الأمر الذي تهدد به علناً.

ومع ذلك فمصير لبنان لن يتم حسمه بالطرق العسكرية سواء تفجر أم لم يتفجر الصراع الإقليمي، وبغض النظر عمن ينتصر ومن ينهزم. فقد يحسم الصراع العسكري السيادة الفعلية على الأرض، أما ما يدور في العقول والنفوس فلا يمكن أن يتغير إلا بوسائل أخرى تماماً.

وإن استمرت الفجوات الراهنة فالمستقبل حامل باحتمالات كثيرة. فما الاحتمالات الشائعة؟

* تطبيق «الطائف»

أكثر وأفضل المفكرين والكتاب في لبنان يفضلون تطبيق «الطائف»، وقد يحسم الصراع على نحو أو آخر عسكرياً، ولكن يقوم المنتصرون ببناء دولة لبنانية جديدة تلغي الطائفية كما ينص اتفاق الطائف. ولكن رغم تفضيل الكتاب والمفكرين فأكثرية المجتمع المسيحي لا تفضل سيناريو الإلغاء التام للطائفية. فهي شكلت أساس النظام لفترة طويلة جداً. وفي ظروف الاضطراب الثقافي والسياسي تمثل الطائفية ضماناً للمسيحيين. كما قد يتم إلغاء الطائفية رسمياً ولكنها تعود بصورة أشد فعلياً، فالإلغاء قد يكون تاماً أو سطحياً، فلو تم الأخذ مثلاً بنظام التمثيل النسبي فسوف يصوّت الناس بنهاية المطاف لأحزاب طائفية أو تتحد مع الطائفة. كما أن تطبيق قواعد الديمقراطية التقليدية حتى في ظل نظام الدوائر أو الأقضية الحالية لا يحل المشكلة. إذ يتم إلغاء الحصص وقد يتم أيضا إلغاء الضمانات التي يوفرها النظام الحالي للمسيحيين والأقليات بشكل عام، خصوصاً بعد أن صاروا أقلية نسبية فعلاً وتنخفض نسبتهم من السكان بدرجة أكبر فلا يحمي مصالحهم ورموزهم سوى كرم الأغلبية.

والصحيح هو أن يوضع دستور جديد ينص بوضوح على حقوق الأقليات إضافة إلى الحقوق الأساسية للمواطنة. وقد يقفز المجتمع المسيحي للأخذ بفكرة حق النقض في تشكيل الحكومة كما يطالب بها «حزب الله» منذ بداية الأزمة الحالية. ولكن خبرة التاريخ تقول لنا إنه لا يوجد شكل دستوري أو قانوني يحافظ فعلاً على حقوق الأقليات ووحدة الدولة في الوقت نفسه سوى العقل السياسي السليم وعادات الناس وأسلوب تفكيرهم. فإن لم يتغير العقل السياسي اللبناني بصورة جوهرية قد يؤدي إلغاء الطائفية على المدى الأبعد إلى انقسام فعلي للدولة أو تفضيل الانفصال من جانب المجتمع المسيحي اللبناني. ومن هنا يتأتى خطر الاندفاع إلى هذا السيناريو، خصوصاً لو تم الأخذ به بعد الحسم العسكري.

دولة الكانتونات أو الأبارتهيد

عندما يتباعد الناس ثقافياً ووجدانياً مثلما يحدث في لبنان منذ سنوات طويلة فهم ينفصلون فعلياً أو بالنهاية قانونياً، ولذلك فالاحتمال الأول والأسوأ، والتقسيم الفعلي. ويعني ذلك أن يتحول لبنان مما يسمى نموذج الدولة الارتباطية إلى نموذج آخر أقل تماسكاً، ويمكن أن نسميه دولة الكانتونات. الأول يقوم على نوع من الاتحاد الدستوري الفضفاض بين «كانتونات» أو «جاليات مستقلة» يتمتع كل منها بالاستقلال الفعلي عن بعضها بعضا. أما في دولة الكانتونات فلا يبقى من مظاهر سيادة الدولة الكبيرة سوى الجيش الذي يتحول إلى مجرد رمز أو كما نقول في مصر «خيال مآتة».

ويمكن لدولة الكانتونات هذه أن تتحول في المستقبل البعيد إلى صيغة ما من دولة «الأبارتهيد» العنصري، فتنفصم عرى الوحدة السياسية بين مناطق ذات أغلبيات مسيحية تعوم في الرخاء وتتمتع بحماية مباشرة أو غير مباشرة من جانب أميركا أو الغرب وتشعر بالانتماء الفعلي للعالم الأول من جانب، وعلى الجانب الآخر مناطق، خصوصا الجنوب، تعيش في ظروف فقر وعزلة ونقمة وتقشف صارم ووسط مظاهر تدين واضحة للمجتمع وفي ظل رئاسات دينية-عسكرية على نحو أو آخر. وبينما لم ينتقل هذا السيناريو من دائرة الافتراضات والاحتمالات إلى دائرة الفعل، فهو يتسق تماماً مع الاستراتيجية الإسرائيلية ومع الفكر اليميني الأميركي أيضاً والقائم على تعميم المعازل العنصرية وتسييد السياسات الدينية والطائفية.

وأكثر ما يخشاه الجميع هو الوقوع في وهدة هذا النموذج. ومع ذلك فهو «أسرع» و«أسهل» الاحتمالات لأنه قد يفرض نفسه من حيث لا يريده أحد، خصوصاً لو لم ينتبه «حزب الله» إلى ضرورة تجاوز نموذج التعايش إلى نموذج التمازج الثقافي والسياسي بين فرقاء السياسة اللبنانية. ولذلك فهو يمثل المأزق الأساسي في فكر «حزب الله» السياسي. والسؤال الرئيس هو ماذا يريد «حزب الله» على المدى الطويل؟ وعلى الحزب أن ينتج إجابة خلاقة وواقعية معا.

دولة مابعد الطائف

فماذا ستكون إجابة «حزب الله»؟ انتُقد «حزب الله» طويلاً لأنه حصر خطابه في فكرة المقاومة وحدها تقريباً ولم يطرح مشروعاً سياسياً متكاملاً وواقعياً ومنسجماً. وإن انتصر «حزب الله» عسكرياً قد يذهب إلى بديل بناء دولة موحدة ومركزية إلى حد ما، ولو لم تكن مشابهة تماماً لنموذج الدولة الإيرانية أو الدولة السورية. ولم يكن «حزب الله» يشعر بضرورة وضع مشروع سياسي جامع أو بناء نموذج سياسي ودستوري ما حتى أثناء احتكاره الفعلي للسلطة بين عامي 1991 و2000. ولكن الحسم العسكري قد يفرض فرضاً تجاوز اتفاق الطائف والاندفاع وراء إغراء دولة واحدية.

والواقع أن هذا النقد صحيح أيضا بالنسبة لبقية القوى السياسية في لبنان... فليس لدى الأكثرية النيابية مشروع سياسي سوى الحديث عن توزيع السلطات في الدولة والوعد المؤجل بتطبيق الطائف. أما في ما يتعلق بمستقبل المجتمع والاقتصاد في لبنان والقضاء على الفقر وتجسير الهوة بين الطوائف ومستقبل خطاب الهوية وطبيعة الهوية الجامعة فلا نجد إجابة. مفتاح المشروع السياسي الوطني والجامع في وقت واحد لا يكمن في التفاصيل الفنية التي تشغل العقل اللبناني منذ تفجر الأزمة الراهنة. وإضافة إلى ذلك لا يوجد نموذج سياسي مثالي للجمع بين احترام التنوع والخصوصيات الثقافية والوحدة السياسية والدستورية. ولكن الفكر السليم يملي أن نتحرك في اتجاه أفضل نماذج الحكم والسياسة من خلال آليات حقيقية وواقعية، خصوصاً آليات التعليم والثقافة والاقتصاد وبناء المؤسسات الوطنية. وبوجه عام يتطلع اللبنانيون كلهم إلى نموذج ديناميكي ما بعد طائفي وما بعد الطائف أيضا. ما بعد الطائفي يعني الإلغاء الدستوري والسياسي للطائفية، وما بعد الطائف قد يعني بناء دولة لا تلغي الطائفية دستورياً فحسب، بل اقتصادياً واجتماعياً كذلك من دون أن تعرِّض ضمانات الخصوصية والديمقراطية للخطر.

* نائب مدير مركز الدراسات السياسة والاستراتيجية في الأهرام

back to top