ما بعد الانتخابات 2
في الجزء الأول من هذه المقالة تطرقت إلى دور الناخب وأثره في العملية الانتخابية ومسؤوليته عن نتائجها. اللاعبون الآخرون في العملية الانتخابية هم المرشحون ومَن خلفهم من قوى سياسية واجتماعية، والحكومة والإعلام بشكل عام والصحافة بشكل خاص. ولكل من هذه الأطراف دوره قبل وبعد النتائج. والكل مطالب بمراجعة التجربة الأولى في نظام الدوائر الخمس ومحاولة تحليلها بشكل يضمن المصلحة العامة ومنع تكرار المشاكل أو المعوقات التي شابت ممارساتنا الديمقراطية.فعلى سبيل المثال لا الحصر كشفت نتائج وممارسات العملية الانتخابية فشل الدولة ككل والحكومة بشكل خاص، في بناء وتعزيز مفهوم المواطنة لدى أبناء الشعب. والتعريف الأكاديمي المبسط للمواطنة هو «جودة مشاركة الفرد في مجتمعه أو دولته»، أو درجة ولاء الفرد للمجتمع مقابل الحماية التي يوفرها المجتمع له. والانتخابات عرت بما لا يدع مجالاً للشك ضعف إيمان المواطن بحماية الدولة، وبالتالي ضعف ولائه لها كمؤسسة مدنية. فنجد أن الكثيرين استعاضوا بالقبيلة أو العائلة أو الطائفة عن الوطن وتركز اهتمامهم على خدمة مجتمعهم الصغير والبدائي بدلاً من الوطن الأم.
وهذا الفشل في إرساء مفهوم المواطنة ناتج عن ممارسات عدة، ولكن أهمها برأيي هي الممارسات التعليمية والتربوية. فمناهج التعليم والعملية التربوية تكرس مفهوم الولاء للأشخاص بدلاً من الوطن، ولا تشجع أو تبني حس المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية تجاه خدمة الوطن، كما تخلو من أي محاولة لبناء المعرفة أو المهارة السياسية الضروريتين للمشاركة في النسيج الاجتماعي الأكبر. في المقابل عمل كثير من المرشحين على استغلال ضعف هذا الوازع الوطني وضربوا على الأوتار العرقية والقبلية والطائفية والمذهبية لمصلحتهم الخاصة، ضاربين عرض الحائط بمصلحة الوطن والمصلحة العامة. فساهموا مساهمة مباشرة في شق الـصـــف الوطـنـي وتعـمـيق الـفـــرقة بـيـــن أبـنـاء الــوطــن الــواحـد. وهــذا- إضافة إلى كونه مظهراً من مظاهر التخلف الاجتماعي- فهو من مظاهر الخلل الأخلاقي والمهني الواضح في هذه الانتخابات، أيضاً. الممارسات غير القانونية مثل الانتخابات الفرعية (أو المشاورات) والرشوة وشراء الأصوات واضحة للعيان وسهلة التقييم أو الرصد. أما الممارسات اللاأخلاقية أو التي تقارب اللاأخلاقية فهي أقل وضوحاً، وإن كانت أكثر انتشاراً. فمثلاً قام كثير من المرشحين التجار باستغلال قواعد البيانات المتوافرة في محالهم ومطاعمهم للوصول إلى الناخبين في بيوتهم. وهذا عمل لا أخلاقي فأنا إن كنت قد أعطيت رقم هاتفي لمطعم لتوصيل وجبة سريعة، فأنا بالتأكيد لم أعط للمطعم أو لمالكيه حق الاتصال بي في أي وقت وفي مواضيع ليست ذات صلة بطبيعة علاقتنا. وكثيرون من المرشحين قاموا بتعيين عاملين في حملاتهم الانتخابية مقابل أجور وبدلات مبالغ فيها مثل أجر 100 دينار ليوم العمل الواحد وبدل 500 دينار في الشهر للوقود! وهذه الممارسات يشوبها كثير من الغموض الأخلاقي الذي يحمل شبهة أنه غير قانوني أيضاً. هذا بخلاف استغلال ظروف الناخبين المالية أو الصحية أو الاجتماعية للدفع باتجاه تصويتهم للمرشح على أمل الفرج أو بوعد «الخدمة» بعد النجاح. «الأخلاق المهنية» مثلما «المواطنة» مفاهيم غريبة على المواطن الكويتي رغم أهميتها وخطورتها. وضياع هذه المفاهيم مسؤولية السلطات جميعاً، وعلى رأسها السلطتان التشريعية والتنفيذية. ولكن مما رأينا حتى يومنا هذا يبدو أن أطرافاً في كلتا السلطتين مستفيدة من هذا الضياع. فمن سيملك الجرأة لوضع حد لذلك؟