القرصنة... التاريخ والمشكلة والحل (3-5)

نشر في 08-02-2009
آخر تحديث 08-02-2009 | 00:00
 د. عمار علي حسن انتهى مصطلح «التدخل الحميد» الرامي إلى استقرار الصومال بفشل ذريع، وتجسد في عملية انسحاب القوات الأميركية منها تلبية لنداء الشعب الأميركي نفسه الذي روعه مشهد تقاذف أقدام بعض الصبية الصوماليين لرأس جندي أميركي مقطوع. وبعدها تفكك الصومال، وانتقل من «الدولة» إلى «الكيان الاجتماعي العشوائي» الذي يضربه العنف والضعف والفقر المدقع.

من الضروري أن ننزع أي نوع من الخيرية عن القرصنة، وفهم الفواصل الكبيرة والحادة بينها وبين المقاومة، فالقرصنة عمل غير مشروع قانونا، ولا يمكن أن تكون كذلك، بينما المقاومة عمل مشروع، تباركه الشرائع السماوية، ويحميه القانون الدولي، وتوجبه حياة الأمم والشعوب، ويصبح أحيانا هو الخيار الأفضل والأمثل للحصول على الحقوق.

وقد حاول بعض الباحثين والمحللين والساسة أن يضفوا مشروعية ما على ما سلكه القراصنة الصوماليون بدعوى أن بعض السفن المختطفة قد دخلت إلى المياه الإقليمية للصومال، وأن هناك سفن صيد تميل إلى شواطئ هذا البلد لأنه مياهه غنية بالأسماك، وتجور على حقوق الصيادين الصوماليين، وأن القراصنة يقومون في هذا الشأن مقام الدول حين يتم اقتحام مياهها الإقليمية، نظرا لغياب الدولة الصومالية، وأن ما يفعلونه هو دفاع شرعي عن أمن بلادهم، ولا جناح عليهم في ذلك أبدا، ولا يمكن لمنصف أن يلومهم على ما يقترفونه.

لكن هذه الرؤية تفترض أن يكون القراصنة قد أعلنوا نيةً بهذا المعنى، أو أن مواقفهم التي تعقب الاستحواذ على السفن تؤكد هذا وتعبر عنه، لكن ذلك لم يحدث على الإطلاق، فالقراصنة ما إن يستولوا على سفينة معينة حتى يبدؤوا في المساومة بغية الحصول على غنائم، ويديروا هذه العملية كعصابة دولية محترفة، ويتعامل معهم المجتمع الدولي على صورتهم وصيغتهم هذه، ويستعمل كل ما يتاح له من قوة للتخلص منهم، باعتبارهم شراً لا بد من القضاء عليه.

إن رسم الفوارق الجلية، التي لا لبس فيها، بين فعل المقاومة وجريمة القرصنة، أمر غاية في الأهمية بالنسبة للعالم العربي على وجه الخصوص، فموقعه في منتصف العالم، جعله يشرف على الطريق الرئيس للتجارة العالمية، وفي الوقت نفسه فإنه يموج بالجماعات والتنظيمات المسلحة التي تناوئ الأنظمة الحاكمة والكثير من الدول الغربية معا، ومن ثم فإن هناك سياقا وظروفا ومناخا تعزز فرص القرصنة، لاسيما إن نجح القراصنة في تحقيق أهدافهم، ووضعوا خبرتهم تحت تصرف الجماعات السياسية المسلحة. وإذا ما تحدثنا عن الصناعة الدولية لظاهرة القرصنة الراهنة، فنجد أن الغرب يصنع، سواء كان قاصدا أو غير متعمد، في ضغطه المتواصل على الأعصاب السياسية والاقتصادية والثقافية للعالم المعاصر ظواهر في أماكن شتى، متكئا على إمكاناته المادية والمعنوية الهائلة، الممتدة من الأسلحة الأكثر فتكا إلى أجهزة الإعلام الأعلى صوتا. وبرفقة دفاعه عن مصالحه الاستراتيجية استمرأ الغرب فكرة وعملية اتخاذ دول العالم الثالث حقل تجارب لنظرياته في العلوم الإنسانية، التي أنتج آخرها ظاهرة القرصنة في صورتها الأخيرة التي يعانيها العالم بأسره حاليا، بعد أن مست أهم معبر مائي يربط الشرق بالغرب وهو البحر الأحمر، ومنه إلى قناة السويس، المعبر الرئيسي للتجارة الدولية.

ففي مطلع تسعينيات القرن المنصرم صكت الولايات المتحدة مصطلح «التدخل الحميد» الذي رمت منه إلى إعادة الأمن والاستقرار لربوع الصومال، لكنها قصرته على الجانب العسكري، فانتهى بفشل ذريع، تجسد في عملية انسحاب القوات الأميركية من هناك تلبية لنداء الشعب الأميركي نفسه الذي روعه مشهد تقاذف أقدام بعض الصبية الصوماليين لرأس جندي أميركي مقطوع. وبعدها تفكك الصومال، وانتقل من «الدولة» إلى «الكيان الاجتماعي العشوائي» الذي يضربه العنف والضعف والفقر المدقع، حتى جاءت «المحاكم الإسلامية» فراحت تعيد تجميع أوصال الصومال، وترد إليه قوة «الضبط الاجتماعي» القاهرة، والمرجعية السياسية الحاكمة، والآليات المؤسسية التي إن كانت ضعيفة أو جنينية فهي على كل حال أكثر فائدة وجودة من الغياب التام لأي تنظيم إداري أو قانوني.

لكن من سوء طالع «المحاكم الإسلامية» هذه أن الولايات المتحدة كانت قد بدأت تفكر في تجريب نظرية جديدة أطلقت عليها «الفوضى الخلاقة» والتي نبتت في ركاب استراتيجية «مكافحة الإرهاب الدولي»، وهي من تداعيات حدث 11 سبتمبر الرهيب.

وما جعل واشنطن معنية بمد تصوراتها تلك إلى الصومال أن «المحاكم» نفسها لم تبرأ من عيوب جسيمة وارتكاب أعمال مشينة سواء ضد المجتمع الصومالي البسيط أو ضد دول الجوار الإقليمي، ناهيك عن مساندتها الملموسة للعديد من التنظيمات التي تناصب الولايات المتحدة وحلفاءها العداء جهارا نهارا، وفي مطلعها «تنظيم القاعدة».

ولهذا اتسعت الحملة الأميركية ضد «الإرهاب» لتطوي الصومال، حيث قامت واشنطن بدفع أديس أبابا إلى شن حرب بالوكالة لاقتلاع المحاكم الإسلامية ومطاردتها، كما سبق أن اقتلعت «حركة طالبان» من حكم أفغانستان، وأسقطت نظام صدام حسين في العراق. ورغم أن الإثيوبيين مطالبون، بوصفهم قوة احتلال، بإدارة الصومال وحماية سواحله، فإنهم تراخوا في أداء هذه المهمة، لاسيما بعد تمكن قوات المحاكم من تجميع أشلائها، ومعادوة الهجوم على العديد من المدن الصومالية لاستردادها، ومهاجمة القوات الإثيوبية ذاتها في أكثر من مكان، حتى باتت أديس أبابا تشعر بالحرج البالغ والثمن الباهظ لاحتلالها الصومال، ومن ثم تفكر في الرحيل عنه.

عند هذه النقطة عادت الصومال مرة أخرى إلى مرحلة ما قبل الدولة، حيث التشرذم الاجتماعي والتطاحن السياسي وغياب سلطة القانون، وأصبحت الأوضاع هناك تسير في اتجاهين، كلاهما يغذي الميل إلى ارتكاب الجرائم المنظمة ومنها القرصنة، الأول يرتبط بتحول أراضي الصومال إلى ساحة لتصفية بعض الصراعات الإقليمية، ومكان مثالي لنشاط العصابات الدولية، والثاني يتعلق بتحلل الشعور بوجود سلطة محلية وطنية جامعة تتجاوز الهويات والانتماءات القبلية والعشائرية والمناطقية الضيقة، واستبداله بشعور مغاير يتأسس على «الخلاص الفردي» و«الاستحلال» والتصريف اليومي للأمور، والبحث عن أي سبيل يجعل قطاعات من الصوماليين تستمر على قيد الحياة. وزاد على ذلك أن المحاكم الإسلامية وجدت نفسها في حاجة ماسة إلى تدبير كل الركائز المادية التي تؤهلها لإخراج الإثيوبيين من أراضي الصومال، ومنها شراء السلاح، وتوفير أجور المرتزقة، واستمالة بعض وجهاء العشائر ومشايخ التيارات الدينية التقليدية. ومن ثم فقد استمرأت حجة تقوم على أنه ليس هناك ما يمنع من أن تستغل المحاكم ظاهرة القرصنة في تحقيق مكاسب مادية لها، سواء باقتسام الغنيمة مع القراصنة، أو بالتصدي لهم نظير مقابل تدفعه القوى الدولية التي تمتلك سفنا تسير في المحيط الهندي وتسلك قناة السويس في طريقها إلى أوروبا الغربية والأميركتين.

* كاتب وباحث مصري

back to top