خرج صوتها من أعماق اليأس.. مخنوقاً بالإحباط ويرشح بالدموع.. مكبلة بالنهايات وهي على باب عتبات الدنيا الأولى.. صغيرة بعمر البرعم.. جميلة ككنز مخبّأ في طيات التفتح، ومع كل هذه الوعود جاءتني بنهاياتها قبل ان تبدأ خطواتها.
قالت: «انتهيت ما عاد عندي شيء.. ما عاد في الدنيا ما أتوقف عنده.. وما فيها شيء ينتظرني بعد». ضحكت وقلت: «كل هذا بسبب فشل قصة الحب الأولى»، وربتُّ على كتفها بحنان وحكيت لها حكاية التكرار والزمن اللابد في الانتظار.. والأوراق المخبأة في الصناديق.. أوراقنا المكدسة في المقفل من مستقبلنا المجهول.. لكل منا صندوقه.. مطوية فيه أوراقه بعناية وترتيب.. كل ورقة لها بداية ونهاية.. تأتي في وقتها بالضبط.. حين يحين أوانها.. لا تتقدم ولا تتأخر.. ولا تُزاحم ما قبلها ولا ما بعدها.. مؤرشفة في نظام رائع.. لا مجال لأي خطأ فيه.. ملف يحتوي على كل المعلومات، والأحداث، والمصائر التي نمر بها وتمر بنا.. ما بعد وما قبل الولادة.. وحتى النقطة الأخيرة على السطر. نبدأ في سحب الأوراق مع بداية خطوات وعينا الأول.. وإدراكنا بأفراحنا الأولى.. مع أول خطوات نخطوها.. وأول شهادة نجاح.. وآخر شهادة تخرج.. وأول سلمة في العمل وآخر سلمة في العمل.. فرحة التقاء الشريك والارتباط بالحياة معاً.. الإتيان بالطفل الأول.. والطفل الأخير.. والبهجة المصاحبة لهما.. ودوران عجلة الحياة معهما من جديد.. عودة إلى صفوف المدرسة.. والعمل والبحث عن إتمام دورة التكرار.. المهم في الحياة هو امتلاء الصندوق بأوراقنا.. مما يعني استمرارية وجودنا. قالت: «لكن صندوقي ضاعت منه أهم ورقة فيه، لذا لم يعد لي شيء مهم من بعد ضياعها». ضحكت مرة أخرى لأنني سمعت الشكوى ذاتها جاءت يوماً ما من ذاتي أنا.. أتت من غابة أحزاني عندما أصبحت أرملة.. قلت لصديقتي بصوت ساقط في قنوط يقين ثابت: «لم يعد لي في هذه الدنيا شيء.. صندوقي طارت أوراقه لم يعد فيه إلا ورقة واحدة... هي ورقة الموت». قالت صديقتي بحنان الدنيا: «صندوقك ملآن بالأفراح»، قلت: «كيف وأنا استهلكت كل ما فيه». قالت: «يا ما لك من سعادات قادمة.. وتنتظرك الهدايا مع نمو أطفالك.. وأحفادك المنتظر وصولهم في الغيب»، وهذا ما أخطأت في حسابه.. ترتيب الصندوق حسب توقعاتي بنظام أرشفة الأوراق كان الخطأ فيه كبير.. صندوقنا لا يخضع لترتيب توقعاتنا.. ولا يأتي بالنظام العقلي والاجتماعي المخطط له.. الصحيح.. الصندوق ممتلئ.. لكنه بحسب نظامه الذاتي المرسوم والمعد لكل فرد بلوائح الغيب.. لذلك كانت حسبتي غير صحيحة.. لأنه كان في صندوقي.. مفاجأة لم تكن في الحسبان.. في حين ظننت أنه لا توجد إلا ورقتي الأخيرة.. كانت هناك ورقة جاءتني بمنعطف التحول الكبير في حياتي.. في حين ظننت بأن الدنيا أغلقت الباب.. اكتشفت بأنها فتحت كل الشبابيك والنوافذ والمصاريع والأبواب والأقفال.. وما ظننته السير إلى النهايات.. وجدته ليس إلا السير إلى أوائل البدايات.. وليس أي بدايات.. إنها بداية اكتشاف الكتابة.. المعرفة.. الفن والإبداع وطريق التحول من ذات صغيرة تدور حول نفسها، إلى ذات تدور في قلب الكون والخلق والعالم.. وكل ما نظنه النهاية يخيب الله ظننا ويأتينا بما هو غير متوقع.. وغير منتظر.. وما علينا إلا أن نستمتع بأوراقنا وأن نتمعن بها وندرسها باقتدار.. نعرف كيف نعيشها ونتمتع بمذاقها على مهل.. لا نقنط ولا نيأس.. فقط علينا أن نعرف كيف نضيف البهجة إلى أوراقنا المقروءة.
توابل - ثقافات
الورقة الأخيرة
02-06-2008