أولاً، وقبل الحديث عما يقال عن مدى ما حققته الوساطة التركية، لابد من التأكيد مثنى وثلاث ورباع، أنه مع سورية الحق كل الحق في أن تبحث عن مصالح شعبها، وأن تفاوض في السِّر والعلن وفي أنقرة وإسطنبول وجزر «ماو الماو»، وأن من حقها أن تناور وتحاور وأن تكُرَّ وتفر وأن تتقدم وتتأخر وأن تساوم وتقاوم، ببنادق ومدافع السياسة طبعاً، لا بانتصار حسن نصرالله الإلهي. فاستعادة الجولان، بتنازلات معقولة، تستحق الغوص في الوحول حتى الركب وتستحق أن تغلق القيادة السورية آذانها أمام فرسان الشعارات و«مزايدات» المزايدين.
لم تكن سورية في أي يومٍ من الأيام، منذ انقلاب الرئيس الراحل حافظ الأسد على رفاقه المتشددين في عام 1970، دولة «ممانعة» كما يقول الذين امتهنوا خطب المهرجانات والحجيج للتضامن مع القادة الدكتاتوريين الذين كان صدام حسين «إمامهم»! إنها كانت أول الذاهبين الى جنيف بعد حرب عام 1973 وإنها كانت أول الذاهبين الى مدريد وإنها هي صاحبة شعار: «كلٌّ يقلع شوكه بنفسه وكل شاة معلقة من عرقوبها»، وإنها كانت في طليعة الذين وافقوا على قرارات «فاس الأولى» و«فاس الثانية». أبدت سورية معارضة شديدة لاتفاقيات «كامب ديفيد» الشهيرة والسبب أنها كانت تصر على استعادة أراضيها المحتلة كلها، وأنها تريد حلاً عادلاً يقتنع به الشعب السوري. وهذا ليس عيباً، بل هو ذروة الوطنية وذروة الموقف الصحيح، وهي عندما بقيت على مدى الأعوام الثمانية الماضية تصر على ما يسمى «وديعة رابين»، فإنها يجب ألا تلام فالزمن لا يجوز أن يُضيعَ حقاً. لكن وفي الوقت نفسه يجب اغتنام الفرصة عندما تكون سانحة... وهناك مثل يقول: إذا هبَّت رياحك فاغتنمهافإن الخافقات لها سكون عندما تكون هناك معادلة ملائمة وفرصة سانحة، فيجب عدم التردد وذلك لأن الأوضاع في الشرق الأوسط تشبه الرمال المتحركة، ولأن هناك، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في بدايات تسعينيات القرن الماضي وأصبح العالم يقف على قدم واحدة وهي القدم الأميركية، تقلبات عالمية من المنتظر أن تستمر إلى ان تنتهي الأحادية القطبية لمصلحة كونٍ متعدد الأقطاب، وهذا يعني أن على سورية أن تتحرك بسرعة لتغتنم هذه الفرصة إن هي تيقنت من أن هناك تحولاً حقيقياً وفعلياً في الموقف الإسرائيلي، وإن هي لمست أن الإسرائيليين لم يتحركوا هذا التحرك في إطار سياسة التلاعب في سباق المسارات المعروفة. إذا كانت سورية قد لمست من خلال المفاوضات «غير المباشرة»، التي أجرتها مع الإسرائيليين بوساطة تركية، أنهم جادون وأن دافعهم ليس اللعب مجدداً على تسابق المسارات ولا الهـرب من الضغط العالمي ومن استحقاق الدولة الفلسطينية، فإن عليها أن تمضي قدماً على بركة الله، وأن تغلق آذانها أمام نصائح وإرشادات و«تعليمات» السيد علي خامنئي الذي لا يهمه إلا مصادرة الموقف السوري والفلسطيني واللبناني من أجل تمدد الإمبراطورية الفارسية الجديدة.لا أحد يستطيع مجاراة سورية في إتقان لعبة المناورات على أصولها، لكن لابد من الإشارة إلى أن أسوأ مناورة هي أن يتم تحريك عملية استئناف المفاوضات سواء كانت مباشرة أم غير مباشرة على هذا النحو من أجل شراء الوقت وبانتظار أن ترحل هذه الإدارة الأميركية، التي على رأسها رجل أقل ما يمكن أن يقال فيه إنه أرعن ولا يستحق قيادة دولة غدت القطب الأوحد في العالم، وأن تخلفها إدارة ديمقراطية ربما تكون أسوأ من هذه الإدارة التي عنوانها جورج بوش. المفترض أن المسؤولين السوريين يتذكرون أن إيران في ذروة نشوة انتصار ثورتها ارتكبت حماقة سياسية من الوزن الثقيل عندما سعت لإنجاح رونالد ريغان وإسقاط جيمي كارتر في تلك الانتخابات المفصلية بين الديمقراطيين والجمهوريين من خلال استخدام ورقة إطلاق سراح رهائن السفارة الأميركية في طهران، وكانت المحصلة أن جاءت النتيجة عكسية حيث ازدادت العدوانية الأميركية ضد إيران وأصدقائها جميعا، وتم إسقاط الاتحاد السوفييتي بعد عشرة أعوام وأصبحت أميركا تنفرد بالعالم هذا الانفراد الذي يبدو أن نهايته بعيدة رغم تفاؤل الذين يسقطون أحلامهم الوردية على الوقائع الراهنة المريرة. *كاتب وسياسي أردني
مقالات
دمشق... أهي فرصة سانحة؟!
02-06-2008