اتّفاق الدّوحة ودروب التّسوية الطّويلة

نشر في 03-06-2008
آخر تحديث 03-06-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ

كرّس «اتفاق الدوحة» إحياء التوافقات غير الدستورية وغير الميثاقية، بمعنى أنه أعاد ترسيم حدود التوازنات السياسية، من دون أن يحمل أي ملامح أو توجهات إصلاحية؛ أقله على صعيد قانون الانتخاب الذي أبقى المحاصصات الطائفية والمذهبية والمناطقية، في ظل تحالفات لا مبدئية آنية ومؤقتة على حالها.

رغم كلّ ما يمكن أن يقال عن نواقص أو نواقض اتّفاق الدّوحة حول لبنان، فهو في ظل الاحتقان والتّحريض المذهبي والطائفي وممارسة العنف الأعمى الذي مورس حتّى عشيّة توقيعه، يبقى أفضل الحلول الممكنة في لحظة مفصليّة مهمة، شكّلت انعطافة كان لا بدّ منها، لوقف المزيد من احتمالات التّقاتل والتّذابح والعنف الفاشي الأسود، قبل أن تستفحل وتفتح على حرب أهليّة مقيمة؛ طالما أراد لها بعض الخارج الإقليمي والدّولي أن تستمر، وأن تواصل حصدها لأرواح اللبنانيين وتدميرا لمقوّمات وطنهم.

نقول هذا الكلام في نفس الوقت الّذي يمكن لنا أن نقول أيضا إنّ اتفاق الدوحة بما أنتجه من هدنة هشّة، لا يجب النظر إليه على أنّه صيغة من صيغ الغلبة، لصالح هذا الطّرف أو ذاك، أو أنّه صيغة ترقى إلى مشابهته أو مقارنته ومقاربته مع صيغ سابقة، فهذا الاتّفاق «التسووي» –داخليّا وخارجيّا– هو نتاج مساومات وصيغ مهادنة إقليمية ودوليّة ضغطت على الوضع اللبناني من أجل إيقاف الصّراع العنيف، والاتّجاه بدلا من ذلك لاستئناف الحياة السّياسيّة، وتأجيل سياسات الاحتراب الدّاخلي، وتغليف الانحيازات الداخليّة لمصلحة هذا الطّرف الإقليمي أو ذاك الدّولي؛ بمستوى معيّن من استئناف التّصارع المحلّي على الحصص والمغانم السّلطويّة، بين أطراف السّلطة؛ التي عادت لتلتحم مجدّدا في «ملاحم» من الاشتباك السّياسي، الهادف إلى تحسين مواقع كل طرف؛ انتظارا لما قد يستجدّ مستقبلا، وربّما بعد عام من الآن؛ اتّفاقا أو اختلافا على قانون انتخابي، يشكّل ركيزة من ركائز الاحتفاظ بمقدار من السّلطة؛ يكون كافيا لإعلان الغلبة، كنقيض لـ«الفولكلور الوفاقي» القائل بصيغة «لا غالب ولا مغلوب»، تلك التي كانت شعار كلّ مراحل الحروب الأهليّة التي عصفت بهذا البلد، منذ الاتفاق على صيغته الوفاقيّة / التّوفيقيّة التّلفيقيّة –لا فرق– منذ أيّام الانتداب، مرورا بالاستقلال، وحتّى السّنوات الأولى للحرب الأهليّة عام 1975 وحتّى اللّحظة.

فهل يستطيع الاتّفاق الحالي تحويل الهدنة الراهنة إلى حالة هدنة دائمة، يظلّلها السّلم الأهلي والاستقرار السّياسي والاقتصادي، أم أنّه سيكون خطوة من خطوات تحسين شروط هذا الطّرف أو ذاك، وبالتالي استعادة أجواء الغلبة وما تحويه من احتمالات نشوب الصراع العنيف؟

ولئن لم تكن الصيغ السابقة، أكثر من محطّات على طريق صراع كان يجدّد آلياته باستمرار، فإنّ أطراف الصّراع الحالي على اختلاف تلاوينهم (سلطة ومعارضة سلطويّة) عادوا إلى تشكيل سلطتهم وفقا لمصالحهم؛ لا لمصالح اللبنانيين، تلك التي باتت تتطلّب اليوم قرعا جدّيا ومدوّيا على خزّان الإصلاح السّياسي، والعمل على تعبئة فراغات كل مكوّنات الدولة الدّيمقراطيّة الحديثة.

وإذا كان للأزمة وجوهها البشريّة، فإنّ السّلطة الحاليّة هي الوجه الأبرز للأزمة، المنتجة للفساد وحالة الإفساد المستشرية، العاملة على زيادة حالات الفقر والتّهميش والاستبعاد الاجتماعي لقطاعات مهمّة من المجتمع، ليس من عمليّة إنتاج المعنى والغاية الأهم لوجودهم الإنساني، بل من عمليّة المشاركة السّياسيّة؛ حيث أمسى يستبعد منها كلّ من لا يرتضي حالة الزّبائنيّة والرّعويّة التي باتت الزّعامات الإقطاعيّة الطّائفيّة تلجأ للتعاطي وفقها، ووفق «قوانينها» الاستبعاديّة مع من يفترض أنّهم أبناء وبنات وطن لا تكتمل مواطنتهم فيه؛ إلاّ في ظلّ نظام يحترم حقوقهم، ليحترموا هم واجباتهم. لكن في ظلّ النّظام الطّائفي الحالي، لا يشكّلون أكثر من رعايا؛ تنتهك حقوقهم على الدّوام من دون أن يرفّ لأحد منهم أو من سالبيهم تلك الحقوق أيّ جفن!.

لقد كرّس «اتّفاق الدّوحة» إحياء التّوافقات غير الدّستوريّة وغير الميثاقيّة، بمعنى أنّه أعاد ترسيم حدود التّوازنات السّياسيّة، من دون أن يحمل أيّ ملامح أو توجّهات إصلاحية؛ أقلّه على صعيد قانون الانتخاب الّذي أبقى المحاصصات الطّائفية والمذهبيّة والمناطقيّة، في ظلّ تحالفات لا مبدئيّة آنيّة ومؤقّتة على حالها، وهو على أي حال أذاب الحدود الفاصلة بين السّلطة/الموالاة والمعارضة السّلطويّة وبشكل أكثر سفورا من قبل.

إنّ اختزال لبنان، أو الأحرى السّلطة فيه؛ إلى مجموعة من كتل طائفيّة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، نذير شؤم استبدادي، في مواجهة الدّيمقراطيّة التي بات يستحيل العمل في إطارها بأيّ شكل من أشكال الممارسة البرلمانيّة، في وقت هيمنت وتهيمن فيه استبداديّة الانتخاب لدى النّخب والطّغم الماليّة والسياسيّة، حيث أمسى المواطن يعيش حالة من الفرض القسري لممثّليـ«ه» داخل البرلمان، من دون أن يكون ممثلا لا مباشرة ولا بالواسطة. وهذا كلّه لا يبني دولة ولا يقدّم أيّ إسهام في الخروج من نطاقات الوصاية النّخبويّة الماليّة والسّياسيّة المهيمنة على الطّوائف والمذاهب، وعلى الدّولة وعلى حياة الوطن وأهله من مواطنين ومواطنات على حدّ سواء.

من هنا يشكّل قانون النّسبيّة والدّائرة الواحدة خارج القيد الطّائفي، إحدى القواعد الصّلبة للوحدة الوطنيّة التي يحتاجها لبنان، وأكثر من أيّ وقت مضى، وذلك ضمن مهمات أشمل لتجديد الحياة السّياسيّة، والعمل الجاد للخروج من مأزق الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ومشكلات العنف والإرهاب المتوالدة والمتولّدة من أزمات الوضع الإقليمي والدّولي.

* كاتب فلسطيني

back to top