يقول الأميركيون «الوقت نقود»، أي مجال للعمل والكسب والحياة في الرخاء والرفاهية، و«الوقت كالسيف» يقول العرب لأن الصحراء كانت دائماً حولهم تلون حياتهم بالوحشة والصمت والخوف الدائم من المجهول، والوقت أسودٌ تأكل وتنهش وتقتل يقول أبو العلاء المعري في إحدى قصائده:

Ad

وتأكلنا أيامنا فكأنما تمر بنا الساعاتُ وهي أُسودُ

ويحدث أن يستيقظ المرء من أحلامه وغيبته ليجد نفسه شيخاً في الستين أو السبعين، فيعجب ويسأل كيف مر الوقت، ويتذكر عشرات الوجوه التى توارت، ويستعيد وجوه طفولته وصباه وشبابه وعنفوان وجوده، لتجتمع حوله في النهاية عائلة لكل فرد منها نفس اسمه وبعض ملامحه، لكنه سجين زمن آخر ومكان مختلف كما أقول في قصيدة لي:

«كلهم في قميصي

الفتى في الثلاثين والطفل في العاشرة

وفي الأربعين وقوراً يسير الحكيم

وفي الخلف يلهو الغلام ويُحصي

غيوما وراء القطارات تعدو

كي تفوز بجائزة الرمل مثلي

أو بنوط الجدارة».

ولأن الزمن هو أهم محاور الوجود ومجلى فعاليته وتحولاته انشغل به المبدعون والمفكرون ورجل الشارع الذي يتحدث أحياناً عن الزمن السارق، الذي يمر خلسة من دون أن يشعر به الناس، والتعبير الشعبي «الوقت سرقنا» شائع ودائر على الألسنة وفي رواية «الحرية والموت» للروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكيس يسأل أحدهم البطل الشيخ المحارب الذي تجاوز المئة قائلاً: كيف مرت المئة يا جد؟ فيجيب الشيخ بعد لحظة صمت قائلاً: كأني كنت أشرب كوباً من الماء.

وفي المقابل شاع في الشعر الحديث عن السأم والتكرار والجمود، فالشاعر اليوناني السكندري الشهير كفافي يقول:

«يوم رتيب يليه آخر رتيب

اللحظات المتشابهة ستأتى وتذهب»

وأحمد عبدالمعطي حجازي يحدثنا في قصائده عن وقت يمر ولا يمر، وصلاح عبدالصبور لا يمل الحديث عن التكرار والجمود، ويناشد القارئ في إحدى القصائد قائلاً:

«أعطيك ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة

لقاء يوم واحد من البكارة»

ومحمود درويش يشكو بصوت أنعم وأقل حدة:

«لا أحنّ إلى أي شيء

فلا أمس يمضي ولا الغد يأتي

ولا حاضري يتقدم أو يتراجع

لا شيء يحدث لي»

التكرار، السأم، الجمود، محاور مألوفة ومكرسة صادفتنا في شعر المعري، ولبيد وفي الشعر العالمي لكن غير المألوف هو رصد انشطار الذات وتحولاتها ووجوهها المختلفة، والاحتفاء من ثم بتجاور الأزمنة وتداخلها وتحاورها أيضاً.

والقاص الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس يضع القارئ في بؤرة هذا الانشطار في أكثر من قصة عندما يجالس بورخيس الشاب، بورخيس الآخر الشيخ تحت مظلة الواقعية السحرية أو يحاوره في غرفة ما أو على مقعد في حديقة عامة.

وفي قصته «25 أغسطس 1983» يضعنا الكاتب أمام بورخيسين شيخين يلتقيان في فندق أصغرهما تجاوز الستين والأكبر في الرابعة والثمانين من عمره، ولكي يزيح الوهم والالتباس ويؤكد واقعية الحدث يفتتح الكاتب قصته قائلاً على لسان الشيخ الأصغر «الغريب أن المالك لم يعرفني... قلب لي دفتر الضيوف لأوقع فيه فانحنيت على الدفتر المفتوح، وكانت أولى المفاجآت فاسمي خورخي لويس بورخيس كان مكتوباً، ولم يكن الحبر قد جف بعد... حسبتك قد صعدت إلى الغرفة قال لي المالك ونظر إليّ بمزيد من التدقيق ثم صحح لنفسه قائلاً: عذراً ياسيدي إنك تبدو كالسيد الآخر تماماً ولكنك أصغر سناً»

وفي اللقاء يتحاور البورخيسان الشيخان الأصغر يرى زمنه الآتي ووجوده المستقبلي والأكبر يستعيد ماضيه ليتأمله ويحاكمه، والتقاء الذات بوجوهها وتاريخها ومستقبلها هو في واقع الأمر بحث عن الجذور وإبراز للهوية والخصوصية ومقاومة للعولمة التي تهدد بمحو فكرة الوطن وخصوصية التراث والتاريخ، فالذات عندما تواجه نفسها في مرايا الزمن تستعيد مع وجوهها المختلفة ملامح أخرى متميزة للمكان-الوطن بتراثه وتاريخه وأساطيره وفنونه تؤكد مركزيتها وأصالتها وتقاوم بها عواصف المحو.

* كاتب وشاعر مصري