كان الراحل الكريم أستاذنا خالد سعود الزيد طوال عهدنا بالتلمذة على يديه يحفّزنا إلى أن تكون نظرتنا للحياة في كل تجلياتها نظرة إدراكٍ وتعرّف تتسم بالكلية والشمول، وألاّ ندع للهوامش والحواشي أن تأخذنا بعيدا عن إدراك حقيقة المتن وما يستكِنُّ في تضاعيفه من خفيّ الأسرار ودقائقها. كان ذلك ديدنه في كل ما يعيشه ويراه من فصول حياته الغنية بالتجارب والحافلة بكل ما هو رائع وصادم وعجيب. ولم تكن رؤيته للحركة الوطنية بالكويت لتخرج عن هذا الإطار، أو تجافي هذه الرؤية التي تسدّد نظرته النافذة إلى الأمر فتتجاوز القشور إلى اللباب، وتخترق حجاب الظاهر إلى حقيقة الباطن، فلقد كان، رحمه الله وأعلى مكانه، ذا ملكة ربانية قادرة على أن تميز المجاهدين من «القاعديين»، والخلّص الأوفياء من المدّعين، وتبقى كلماته الحكيمة دائما مناط التقدير والاحترام من كل عارف بفضله. كان دائما يردد بيننا أن الحياة علمته كيف يتعرف على هذه النوعية من الرجال، لكنه كان دائم الأسف لأنه عرف حقيقتهم بآخرةٍ من العمر: «مع الأسف يا ولدي، عرفناها على كبر»... تلك كانت كلماته عن طائفة المتطفلين والمدّعين، أما كلماته عن أهل الصدق والوفاء فكان يعلنها ويسجلها فيما يخطه ويذيعه بين الناس. ولعلي لاأزال أذكر كلماته في الأستاذ جاسم القطامي، حفظه الله، وهو يؤرخ له في موسوعته «أدباء الكويت في قرنين» راصداً رحلته الوطنية مع رفيق دربه الدكتور أحمد الخطيب، ومجلّيا أهمية الدور التاريخي الذي نهض به الرجلان في طلب المزيد من الحريات لشعب الكويت. ولطالما حدثنا الزيد، رحمه الله، وهو يروي لنا كلمات والده الملا سعود الحافلة بالتقدير والاحترام لدور والدة الخطيب رحمها الله في تربية أبنائها حتى نعرف نحن الذين أسعَدَنا الزمان بمجالسته أي نوع من الرجال كان هؤلاء ممن صقلتهم الحياة وجعلت من جهادهم تاريخا يروى.
ولقد كنت- ولاأزال- من أشد المعجبين بالدكتور أحمد الخطيب حفظه الله، لأسباب شتى بعضها داخل في دائرة العموم وبعضها في مجال ما هو خاص. لكن السبب الجامع بين هذه وتلك هو حب الوطن وتقدير قيمة الإنسان. وعندما وقعت أحداث مايو 1990 وانتهى الأمر إلى اعتقال الدكتور أحمد الخطيب على يد أجهزة الأمن، كان هذا الحدث أشبه ما يكون بالصدمة لأستاذنا الزيد. نعم، فلم يكن الزيد، رحمه الله، على وفاق مع الأسلوب الذي لجأت إليه المعارضة في مطالباتها، غير أنه لم يكن من السهل عليه أن يرى رجلا بقامة الدكتور الخطيب رهين الاعتقال وأن يقبع بتاريخه الوطني المشرق وراء الأسوار. ولم يكن خافيا على أحد ما كانت تعانيه الكلمة المعارضة في ذلك الحين من التعرض لمحنة المساءلة، ولاسيما حين يكون صاحب هذه الكلمة رجلا كخالد سعود الزيد يحظى بتقدير خاص من صاحب السمو وولي العهد، رحم الله الجميع. ولما كتب الزيد قصيدته تحت عنوان «كلمة لوطني» تقاطرت عليه الأسئلة من كل صوب، ولم ينقطع رنين هاتفه حاملا للكثير من ضروب التساؤل والاستيضاح والتفتيش وراء المراد والمقصود واستكشاف المسكوت عنه في خفايا النص، وكنا نسمعه يرد ويوضح ما حمله من الأسباب على كتابة هذه القصيدة. صحيحٌ أن الزيد لم يصرح في أبياته بأسماء مَن أصابهم الضُر، إلا أنه كان على يقين بحس الشاعر الواعي وخبرة المؤرخ المسؤول أن الشعر الحق ينبغي أن ينطلق من إسار الزمان والمكان، وأن يجد له مستقرا في قرارة الوجدان، لذلك كان أسلوب الزيد على نمطٍ خاص يجمع بين الخفاء والتجلي، إذ يضمِّن خطابه لسمو أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد، رحمه الله، شكواه لما يجري على ساحة الوطن من أحداث:يا جابرَ الشعبِ المفدى من لها يا ابن الصباحِناهيكَ من سَهَرٍ يؤرقُ خافقي، أوهى جناحي عُتباكَ إن الليلَ يوشك أن ينازعني صباحي إنه في أبياته ينتدب الشيخ جابر للقيام بالمهمة الصعبة ليعيد للوطن رواءهُ، ويجعل من الكويت شمسا تبعث بأشعتها الدافئة النيّرة لتحضن جيرانها، وتكون روضة خضراء وأرضاً بَراحاً تتسع لكل صوت. ويصل الزيد بالحديث إلى البوح بما أثقل كاهله وأوهى جناحه فيقول:أشكوكَ يا وطني إليكَ وما نَكَأْتُ سوى جراحيمالي سواكَ إذ أبحتُكَ من ضميري المستَباحِفاسمع حديث أخي الشجون وقد أصابتني رماحييا ويح منهوب الفؤاد وقد دنا يومُ افتضاحيهكذا مرّ ذلك الحادث بقريحة الزيد، فعبّر عنه بما هَتَكَ الحجاب عن مكنون فؤاده الذي تناوشته مشاعر الحب ففضحت حقيقة شعور المحب الخائف على وطنه، المقدر لرجاله الحريصين على حاضره ومستقبله. كان ذلك ثمرة حسٍّ مرهف لمؤرخ سطر قلمه بكل الحب تاريخ الحياة الثقافية بالكويت، وثمرة الإحساس العميق بدور الشاعر في أن يكون لسان صدق ناصح وكلمة حق لا تعرف الكتمان، فكان لذلك حقيقا بالتقدير والاحترام من القيادة السياسية حتى حين عبرت كلماته الشجاعة عن موقف المخالف.كان ذلك من شجون الحديث بعثني إليه مرور الذكرى السابعة لرحيل خالد سعود الزيد في 12/10/2001، وما أثارته هذه الذكرى من استدعاءٍ لأحداث كانت وأحداث لاتزال تجري، إذ لايزال الدكتور الخطيب حتى الآن هدفا لسهام كثير من الحاقدين الذين لم يذكروا للرجل جهاده في سبيل الإنسان الكويتي. ولعل هذه الكلمات أن تكون تحية واجبة لهذين الرجلين العظيمين: خالد سعود الزيد وأحمد الخطيب. رحم الله الأول، وأسبغ على الثاني نعمة الصحة والعافية والعمر المديد.
مقالات
خالد سعود الزيد والدكتور أحمد الخطيب
12-10-2008